تأملات في سوسيولوجيا المثقفين..

من سلطة القلم إلى هشاشة الحضور.

يشكّل كتاب «سوسيولوجيا المثقفين» لجيرار ليكلرك محاولة لفهم ظاهرة تبدو مألوفة في ظاهرها، معقّدة في جذورها: كيف نشأت فئة يطلق عليها اليوم «المثقفون»، وكيف تغيّر دورها عبر العصور بتغيّر أنماط المعرفة ووسائطها. لا يقدم المؤلف أحكامًا جاهزة، ولا يتعامل مع المثقف بوصفه نموذجًا مثاليًا، بل كظاهرة اجتماعية وثقافية ترتبط دائمًا بالسياق التاريخي الذي توجد فيه. ينطلق ليكلرك من فكرة بسيطة: لم تكن هناك دائمًا «طبقة» تُسمّى المثقفين، بل كانت المعرفة موزعة داخل المجتمع بطرق مختلفة. في الحضارات القديمة، كان الذين يتعاملون مع الكتابة واللغة والمعرفة يمارسون أدوارًا تتجاوز فكرة التعليم أو الوعظ. كانوا وسطاء بين الخبرة الإنسانية والذاكرة، بين الحياة اليومية والتفسير الرمزي. ومع أن تلك المجتمعات لم تبتكر لفظًا يطابق كلمة «مثقف»، إلا أنها منحت مكانة واضحة لمن يمتلك أدوات الفهم والتدوين. كان هؤلاء يمارسون وظيفة ثقافية أكثر من كونها اجتماعية؛ يحفظون التاريخ، ويصوغون القصص، وينقلون المعنى من جيل إلى آخر. في الحضارة الإسلامية، يوسّع المؤلف المشهد من خلال الإشارة إلى العلماء والفقهاء واللغويين والفلاسفة. فقد كان الإنتاج العلمي جزءًا مركزيًا من الحياة الثقافية، ولم يكن “صاحب العلم” منعزلًا عن واقعه، بل شديد الحضور فيه. وفي هذا السياق، يصبح المثقف شخصية معرفية قبل أي شيء آخر؛ شخصًا ينتج فكرًا مكتوبًا، يدرّس، يناقش، ويطوّر العلوم. هنا يبرز جانب مهم في الكتاب: أن المثقف لم يكن مرتبطًا بصفة نقدية أو خطابية، بل بصفة معرفية بحتة، وأن المجتمع كان يحتاج حاملي العلم من أجل التفسير والتعليم وتنظيم المفاهيم. ثم ينتقل ليكلرك إلى أوروبا الحديثة حيث أحدثت الطباعة تحوّلًا نوعيًا. لم تعد المعرفة محصورة في المخطوطات، بل صارت قابلة للانتشار على نطاق أوسع. هذا الانتشار سمح بصعود فئة جديدة من الكتّاب والمفكرين الذين باتوا يخاطبون جمهورًا لم يعودوا يعرفونه شخصيًا. لم يعد العلم حوارًا داخل نخبة صغيرة، بل أصبح قابلاً لأن يصل إلى عامة القراء. في هذه المرحلة يصبح المثقف أقرب إلى “منتج للأفكار”، وتبدأ الكتابة تأخذ شكلًا جديدًا: مقالات، رسائل، كتب علمية وفلسفية، جدالات فكرية. ومع ازدياد عدد القراء، اكتسب المثقف حضورًا في المجال العام بوصفه مساهمًا في تشكيل الرأي لا في تكرار المعرفة. ومع ظهور الصحافة، يزداد المشهد تعقيدًا. في الصحافة لم تعد الأفكار تتطلب سنوات من التأليف، بل أيامًا أو ساعات. تغيّر الزمن الذي تحتاجه الفكرة كي تصل إلى الناس، وظهر لأول مرة «النقاش العام» بوصفه ظاهرة يومية. أصبح المثقف يكتب ويتلقى ردودًا ويشارك في جدل مستمر. وفجأة أصبح الرأي جزءًا من الفعل الثقافي، لا مجرد نتيجة له. يوجّه ليكلرك هنا ملاحظة مهمة: هذا التحول لم يلغِ قيمة الكتب، لكنه أضاف طبقة جديدة للمعرفة، قائمة على السرعة والتداول والردّ المباشر. ثم يأتي الانتقال الأكبر مع الإعلام المرئي والمسموع. هنا يصبح الحضور مرتبطًا بالصوت والصورة لا بالنص المكتوب. يتغير الإيقاع مرة أخرى: المجال الذي كان يحتمل التفسير الطويل، أصبح يفضّل الأفكار المختصرة. المقابلة التلفزيونية لا تمنح الوقت ذاته الذي تمنحه المقالات، والجمهور بدأ يعتاد المعلومات السريعة أكثر من المفاهيم المطوّلة. هذه الظاهرة — كما يوضح ليكلرك — لا تعني اختفاء المثقف، بل تغيّر موقعه. فالفضاء العام أصبح واسعًا، والجمهور لم يعد قارئًا بالضرورة، بل مستمعًا ومشاهدًا. ومع صعود الإنترنت ثم وسائل التواصل الاجتماعي، يصل التحول إلى قمته. لم يعد المثقف بحاجة إلى وسيط لينشر أفكاره، لكن هذا الانفتاح جاء بثمن. فالمحتوى أصبح خاضعًا لمنطق مختلف: التفاعل قبل التحليل، الانتشار قبل التعمّق، والجمل المختصرة قبل النصوص الطويلة. يرى المؤلف أن هذا التحوّل لم يؤد إلى تراجع المعرفة، لكنه أعاد تشكيلها. لم يعد الكتاب هو الوسيط الوحيد، ولم تعد المقالة الطويلة هي الطريقة الرئيسية للتأثير. ظهرت طرق جديدة للفهم والنقاش، لكنها طرق تتطلب مهارات مختلفة وقرّاء مختلفين. التحليل الذي يقدّمه الكتاب لا يتبنّى موقفًا حزينًا تجاه الماضي ولا متفائلًا تجاه الحاضر. بل يعرض الظاهرة كما هي: كل مرحلة تاريخية أعادت تعريف المثقف، لأن كل مجتمع يعيد تعريف معرفته. في زمن المخطوط كان المثقف مرتبطًا بالكتابة النادرة، وفي زمن الطباعة ارتبط بالانتشار، وفي زمن الصحافة ارتبط بالنقاش اليومي، وفي زمن الإعلام الجديد ارتبط بالظهور الرقمي. بهذا يقدّم ليكلرك فكرة أساسية: المثقف ليس شكلًا ثابتًا بل وظيفة متغيرة. قد يكون في زمن الفلاسفة مؤلفًا، وفي زمن الصحافة كاتبًا، وفي زمن الإنترنت صانعًا للمحتوى المعرفي. ما يبقى ثابتًا هو وجود حاجة بشرية للتفسير والفهم، وما يتبدل هو شكل ومكان من يقوم بهذا الدور. يقدّم الكتاب في النهاية قراءة هادئة لعالم يتغير بسرعة. فهو لا يعلن نهاية المثقف، ولا يعتبره ضحية عصره، بل جزءًا من تحول أكبر في بنية المعرفة نفسها. وبين الماضي والحاضر تتكوّن صورة واضحة: لم تختفِ الأفكار العميقة، لكنها باتت تتخذ طرقًا جديدة للوصول إلى الناس. وفي هذا التحول تكمن قيمة الكتاب، لأنه لا يكتفي بوصف المثقف كما كان، بل يضعه داخل حركة تاريخية مستمرة، مفتوحة على مستقبل قد يحمل أشكالًا جديدة للفكر والمعرفة.