الشخص السكن.
من بين خيالات الطفولة الكثيرة؛ ما زالت أسطورة الصداقة تحظى بمكانتها الأثيرة لدي. ولعلي أبتسم حين أتذكر ما دار حول مكان سكن الأصدقاء في مخيلتي وجدالاتي وتوسلاتي، وكيف تكون كل أرض تطأها قدما صديقٍ بيتًا ومسكنا؛ فبيتُ الصديق وطنٌ خاص، يقدم بنفسه فروض الولاء والطاعة، المستقبل بإزائه أبدا، والحاضر يشد على يديه دومًا، والضريبة: حبٌّ صافٍ. ولطالما كانت أمنيتي أن أنام في تلك البيوت التي أحببتُ أهلها؛ فقد كنتُ أرى أمكنة الأصدقاء جنة لا تنقطع فيها الضحكات، لا يلفها الليل ولا تهدأ فيها الأحاديث؛ فالبعيد مغرٍ دائما، والقريب مزهود به، والعمى هنا ليس قدرا البتة، بل يصير أداة اختيارية فوضوية حين يبدأ أحدنا بالاسترسال حول أمانه الخاص وأين يقع، وقد كنتُ أشير على بيوت صداقاتي إذ وجدتها أجمل مكان في الحياة؛ فما يمسّ الصديق يفلت من كل قيد ونقد، ولاسيما حين يكون البيت مليئا بالقيود التي تُرى ولا تُرى، حتى يكبر أحدنا ويؤسس مثلها بقدر ما اعترض وقاوم، فنتوارث قيودا لا نهائية، نسلّمها لأجيال نوصيها على ما اخترناه وقررناه سلفا، وتنتقل معنا عقدة الأصدقاء الذين لا يحدّهم ما يفيهم حقهم، من كنا نصرخ بالعالم ليشهد ما نراه فيهم، حتى يتوسَّل أطفالنا كما توسلنا أهلينا، يخاطبوننا بما كنا نراه قديما، يلحّون على الصديق وبيت الصديق، وكيف تكون الجنة أرضيّةً من وطأة قدميهِ فقط... وربما نصادر حقهم، ونفرض عليهم ما لنا من الأصدقاء! لعل هذا ما يحدث كثيرا... لكن الخيبة حظّ كبير هنا، والإيمان يدفعها، ننحاز للمفهوم لأن الصداقة روح، ليست علاقة دم ولا شهوة أو فكرة، ليست متعة لحظية ولا تجربة نفعية، بل هي روح محضة، مرآة تفاعليّة، وأيادٍ لا تنقبض عنا ولا في وجوهنا، ونسعى لئلا تعرفَ التلويحة وداعا، فرحيلُ الأصدقاء باب رئيسي مضروب في وجوهنا، وعلينا اكتشاف باب آخر للحياة من بعد خيبتنا به. يطوّقني اقتباسٌ مسّني عن أرقِّ وأقسى ما قد يعتري التلويحة؛ تلك الإيماءة التي أعجز عن رصد معانيها لتشعبها... يقول غيورغي غوسبودينوف عن التلويحة التي قامت بها إحدى الشخصيات: «لقد حذرتكِ، لا يمكنك التدخل في حياة الآخرين حتى وإن كان ذلك بمجرد التلويح لهم بيدكِ من النافذة. أحيانا ومن دون قصد قد تتسببين بتغيير مجرى حياتهم وأقدارهم». هذا هو أثر التلويحة، قد يكون كأثر الفراشة؛ فلم أفهمها مجرد تلويحة، ولا مصيبة أو كارثة؛ بل يمكن أن تكون في كثير من الأحيان عقْدَ صداقة ساري المفعول من نظرة أولى وحركة طارئة، هذا سحر البدء، وأسطورية قصة الصداقة، حين يتفق اثنان فجأة كأن الزمن لوَّح لهما أن ابدآ صداقتكما، فتبدأ القصة بخفة وسهولة. أذكُرُ ألفَ صداقة بدأت هكذا بوجه بريء، ونسيتُ مثلها ألفًا انقضت سريعا بما للتلويحة من عمر وبقاء ضئيل... وأذكر خيبات أخرى جرحت قلبا وأدمت وطعنت، كما أذكر موقف الصداقة منها حيث كان الصديق كل دواءٍ مخبَّأ في صيدلية الحياة، أجادَ دور الضمادة والكمادة والجبيرة، عقَّمَ الأذى وأخاط الجروح ورقع القلب مجددا بالحياة، ثم صمَتَ إلى الأبد كحجْر صحيّ لمواطنَ أذى مستقبلية، أدَّى أدوار الأمهات والآباء والإخوة والأحبة، ولم ينتظر تصفيقا أو يتلقَّ أجرًا، بل توارى كملاك حارس في مسرح أحداث جارٍ؛ لأن البطولة عقلٌ وبعد نظر في كثير من الأحيان… وكم أغنى بصوته وحده عن بحار الأرض والغابات والجبال والسماء وكائناتها لتكون الرحلةُ في تجاوز الخيبات كاملةً، وحيث تكون الفسحة التي يهبها الأصحابُ لنا محاكاةً شعورية للجنة؛ فبأيِّ وجه تبقى الخيبة في ظلِّ صديق حقيقي؟ كل الخيبات يرتقها الأصدقاء جسدا وروحا، من يبقون كالبيت منتظرا في مكانه، لا يحسب أحدهم وقته ولا يختلس ساعته متململا من انتظاراته، ولا يحمل أشياءه ويرحل كما يفعل الآخرون؛ حيث يبقى الصديق بيتًا بحقّ، موجودا مكانه يأوي ويحوي، فيبقى ثم يبقى وعلى وجه الحقيقة لا الخيال.