خربشاتنا بعض ذاكرتنا.
كثرة النشر ليست أمرًا سيئًا ولا تفُتّ في عَضُد الكتابة وكونها مسؤولية. يتذمر البعض من كثرة المقالات أو التدوينات في فيسبوك ولينكد إن وغيره من شبكات. الناس تجارب ورؤى وأفكار وبيئات مختلفة ولغات ولهجات وهنا سر جمالهم وإن التقوا في مسرح الحياة الكبير وظروفها المتشابهة لكنهم مختلفون في بصماتهم، وكذلك يُفترض أن تكون كتاباتهم. وبالنسبة لنا نحن أمة اقرأ ، ولا يمكن أن يكون هذا الجيل الذي أُحيط بكم هائل من المعلومات أقل نصيبًا من غيره، فلنكتب ونحكِ تجاربنا مع مراعاة مسؤولية الكلمة وما تمثله من قيمة. الكتابة مثل الصورة التي تلتقطها ولا تعنى بها في زمانها لكنها ربما تضحي نافذتك الوحيدة تجاه لحظات مرت في حياتك، لمة مع أصدقاء، مواقف أو محطات سفر، وإن كانت ذاكرة الكتابة أكبر وأكثر إيحاءً. وأنا أقرأ بعض كتاباتي القديمة في مراحل مبكرة في جريدة اليوم، ثم المدينة قبل صحيفتي الوطن ومكة تنقلني معها لصور ومواقف وسياقات ثقافية واجتماعية، وهذا ما عناه الشاعر في قوله: العلمُ صيدٌ والكتابةُ قيدُهُ قيِّد صيودَكَ بالحبالِ الواثقة فالكتابة قيد للتجربة والمعرفة كما هي قيد للعلم، تمنعها من الضياع والتلاشي. كيف كانت الحركة الثقافية والأدبية، وكيف كان للشعر الشعبي حضوره ومعاركه في الملاحق والمجلات الشعرية، وماهي أبرز القضايا التي تشغل الوسط الثقافي، أشياء جميلة تفوح بها تلك الكتابات التي تحولت مع مرور الوقت إلى ذاكرة وأرشيف. نحن لا نسترد من ذاكرة الأمم السابقة إلا ما نجده مدونًا أو منقوشا على الصخور وما تركوه من تراث. لم تعد الكتابة بصيغتها الصحفية المعهودة نافذتنا الوحيدة، فهناك تغريدات وتدوينات وخربشات تنتشر على مدار الساعة في مختلف المنصات. وأسهمت أدوات الذكاء الاصطناعي في خلق طوفان كتابي يشارك فيه الكثيرون، يدوّنون وينقلون مشاعرهم عبر واتساب وغيره، وهذه الكتابات -على اختلافها-تصنع لمن يتأملها ذاكرة اجتماعية وثقافية. والإنسان بطبيعته وفي جميع أحواله وإن لم يكتب فهو مادة للكتابة وهو يواجه الحياة في مختلف أحوالها، حين يحب أو يكره أو يعيش حالة القلق أو السعادة، ومجرد أن يتأوه ويبوح فهو يفصح عن مكنون يمكن أن يدون ويتناقله الآخرون كما حدث مع الشعراء الذين لم يحالفهم التدوين لتجربتهم وكانت صدور الرواة لهم بالمرصاد ونقلت لنا شعرهم وحفظت موروثهم.