ماتبقى للشاعر من «غرناطة».

عندما نظّرت جولياكريستيفا للحوارية أو التناص اعتبرت الظاهرة نسقًا ثقافيًّا لتفاعل القارئ مع الخطاب والنص، وهو في حدّ ذاته تفاعل مع التاريخ والمجتمع. وبهذا المعنى تصبح الحوارية نسقًا ذاتيًّا جماليًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا في الآن ذاته. وانطلاقًا من هذا الإطار يُمكن التساؤل: كيف يُشيِّد الشاعر تركي المعيني عوالمه الحوارية في ديوانه «كآخر الخارجين من غرناطة» اعتمادًا على العلامة السيميائية «غرناطة»؟ وما الدلالات التي تولّدها هذه العلامة حين تتحوّل من فضاء مكاني إلى رمز نفسي وإبستمولوجي للذات الشاعرة؟. ننطلق في البدء من الفرضية الآتية: علماء الدلالة المعرفية أمثال لايكوف وفيلمور يعتبرون المركبات الظرفية المكانية،هي قوالب فضائية في الأصل لكنها تتحول إلى أهداف نفسية وسيكولوجية. وهذا يعني أن شاعرنا عندما يستعير«غرناطة» كعنوان لديوانه، فإنما نفترض أن الغاية هي أشياء في غرناطة يتم إسقاطها على الذات، وعلى جمالية الكتابة أيضًا. فماهي وجهة نظرنا للإجابة عن تشكلات هذه الحوارية الدينامية بين التاريخ «غرناطة» وفضاءاتها من جهة وذات الشاعر وأناه من جهة أخرى؟. يقول الشاعر في قصيدته «ما أيقظت ملامح الحمراء»: هو لايبوحُ بما يُخبُيء إنما تَطهو ملامحَهُ يدُ البكَّاءِ فــ تراهُ يضحكُ ثم يسكتُ كانتباهةِ واقفٍ في ساحةِ الحمراءِ نسَلتْ له الجدرانُ صورةَ جدِّهِ فَــ ثوى يُحيلُ غناءهُ لــ رثاءِ... في هذه اللوحة الشعرية، يتحوّل المكان «الحمراء» إلى أداة استدعاء للهوية والذاكرة. حيث تُمارس اللغة وظيفة مزدوجة: ظاهرها الحنين والرثاء، وباطنها تحويل الفقد إلى بنية شعرية تُعيد إنتاج الذات. فـ«الجدران» و«الجَدّ» و«الرثاء» ليست وحدات معجمية معزولة، بل رموز مترابطة تُكوِّن شبكة دلالية تُحيل على الضياع الرمزي للأندلس. كما تُنتج هذه الصورة ثنائية أساسية: الضحك/البكاء، التي تتجاوز بعدها الانفعالي إلى بعدٍ أنطولوجي.إنها ازدواجية الذاكرة بين الألم والوجود. هذه الملفوظات الشعرية تزاوج بين الصريح والمضمر ذلك أن المعاني القضوية بالمعنى التداولي هي معانٍ حرفية ملازمة للكلمات والعبارات. حيث إن الأسطر الشعرية تبوح بثنائية “ البكاء والضحك” غير أن الموجّه النصي المكاني: “الحمراء” يقتضي البحث عن المضمرات وراء الوحدات المعجمية الآتية: “الجدران”، “جَدّه”،” رثاء”. ألا يبكي الشاعر قصر الحمراء في غرناطة المفقودة؟ خاصة أن متوالياتها الشعرية يتم ربطها “بالجدّ”،”الأندلس وفقدها،”والرثاء”. غير أن هذه القراءة نعتبرها قراءة أولى على سبيل التشاكل الأول المتمثل في حوار الشاعر مع الماضي وتمظهراته في الزمان والمكان. ويدعم هذا التأويل قصيدة «قلب أحاطه الله!!»الذي يتخذ من حوارية الشاعر مع الأندلس منطلقه للإسقاط النفسي الذاتي لكل العلامات التاريخية وأبعادها الإيحائية يقول: إنّا مُنُّجوكَ .. فـ اقرأ في صلاتكَ ما تلا “ الزمانُ” ربيعًا؛ عصرَ أندلُسَا. الذات الشاعرة توجّه الماضي نحو الذات المركبة، فتتحوّل إيحائية المكان الماضي إلى خارطة للأنا الشاعرة بما تحمله من سمات المعاناة والأحلام المفقودة. يقول الشاعر في قصيدة «ابتسامة الفجر الأول»: تقول للفجر: عُدْ وانزعْكَ عن دُجَنٍ ســ تولدُ اليومَ شمسٌ فيك فاتنةُ ... يتحوّل الفجر إلى علامة حلمية، مشبعة بدلالات الصحو والانبعاث، غير أن فعل الأمر «عُدْ» يكشف انكسار الأمل وتكرار الانتظار. وبهذا يتشكّل محور دلالي قوامه ثنائيات: الحلم/الخيبة، النور/الظلمة، الميلاد/العدم، وهي ثنائيات تتكرّر لتؤسس ما يمكن تسميته بـاقتصاد التوتّر الشعري في الديوان.إن الشاعر يحول الأمكنة والفضاءات إلى سمات نفسية تهيمن عليها مقومات [+حلم]،[+صبابة]،[+معاناة] .. إذ يظل الحلم المنزوع من التاريخ ( لنتذكر الأندلس وغرناطة) في قصائد الشاعر مجرد أفق ينزع إليه الشاعر بلا أمل أو يقين يقول: مالا إلى الماء حيثُ الماءُ ينزعُهم ممّا تُجفِّفُ للأحلامِ؛ يابسةُ... تتحوّل صورة الماء-رمز الحياة والخصب-إلى دليل جفافٍ روحي. فالمفارقة-هنا-ليست جمالية فحسب، بل مؤشر دلالي على انقطاع التواصل بين الحلم والتاريخ، لذلك اتخذ النسيج الشعري من عناصر الحوارية التاريخية أساس الرؤيا للعالم. إذ يسقط كل معاناة الضمير الجمعي التاريخي على معاناة الذات وأحلامها المفقودة، وهذا ما نلحظه في قصائد يزاوج فيها بين ثنائيات عديدة مثل: الماضي والحاضر في البنية التركيبية، أو الحياة والموت، والخصب والجفاف، والخير والشر كما في قصيدة «مالم ينكره قميص يوسف»،فإذا كنا قد قرأنا حوارية النصوص في النسق الشعري للشاعر ضمن إطار الإسقاط الدلالي النفسي، فإنه يستعيد «قصة يوسف» لتحيا بين الضمير الجمعي والفردي للأنا الشاعرة، فكيف تبني القصيدة مستويات التحويل الفضائي النفسي؟. أنّى بــ عيرٍ للبشيرِ تجيئُني بــ قميصِ يوسفَ.. كي أعودَ من العَمى؟!! الأرض ماجت بالحياةِ ولا أرى للمعجزاتِ إلى عيوني سلّما فــهنا حقول الجائعين مليئةٌ بالقمح... لا تشكو الجفافَ أو الظما وهناك ثوبٌ قُدّ من دُبُرٍ وما شهدوا بــ تبرئةِ الغلامِ، وإنما.. خرسُوا كما خرُسَ الظلوم لــ باطلٍ من أهلِهِ فيما رأى وتكتّما! الشاعر يستعير من جديد فضاء تاريخيا دينيًّا، وهو قصة يوسف فيحولها انطلاقًا من المزاوجة بين مركبات الفعل الماضي والمضارع إلى قصة الذات ورؤيتها للعالم. ذلك أن التوازي بالتناظر(التشابه والاختلاف) بين مركبات الفعل الماضي: “ماجت”،” قُدّ”،”خرسوا”،”أبت”، ومركبات الفعل المضارع:”تجيئني”،” أعود”،”أرى”،”تشكو”.. تحوّل قصة يوسف حيث المعاناة مع الظلم والغدر إلى التمرّد على الزمان الحاضر. أي حاضر الذات من خلال الكشف عن زيف الحقائق التي تعيشها الذات،يقول: “والنائمون رأوا بأن رؤاهمُ أضغاثُ أحلامٍ فلا تروى! وما.. إن قراءة قصيدة «قميص يوسف» تكشف نصًا يقوم على تفجير الرمز المؤسِّس لاكتشاف حاضرٍ مشكوك في معجزاته. القميص هنا ليس إشارة كمية عابرة، بل علامة سيميائية تحرّك بنية القصيدة كلّها: إنّه يتناص مع الأقمصة الثلاثة في السرد القرآني (الملطّخ، والممزّق، والمبشِّر بالعَود والبصر)، لكنه يُنزَع من سياقه الديني ليُعاد توظيفه في سياق ذاتٍ ترى أن العين لا تجد إلى المعجزة سُلّمًا. هكذا يتحوّل القميص من برهان على الصدق إلى اختبار للزمن: هل ما يزال «البشير» ممكنًا في واقعٍ «لا يرى للمعجزات إلى العيون سُلَّمًا»؟ وتتعاقب ضمائر القول بين نداء مستغيث «أنّى بعير للبشير تجيئني…» واعتراف فاجع «ولا أرى للمعجزات…»؛ هذا التذبذب بين الطلب والنفي يُنتج اقتصاد توتّر يُبقي المعنى معلّقًا بين أفق الخلاص ووعي العجز. إن صيغ الاستفهام والشرط والنداء تؤسس لقصيدة إنجازية تفعل أكثر مما تقول: لا تصف اليأس فحسب، بل تؤدّيه أداء لغويًّا؛ فالنداء يُستدعى ليُلغى، والبشارة يُستحضَر نموذجُها ليُشَكَّك في إمكانها. ويتأسس الزمن الشعري على جدلية الماضي/الحاضر من خلال تواشُج الفعلين الماضي والمضارع. فالماضي يُستدعى بوصفه «خبرًا يقينيًا» (قصة يوسف) ثم يُقاس عليه حاضرٌ يفقد يقينه؛ والمضارع هنا ليس استمرارية مطمئنة بل استمرارية أزمة: «تجيئني/أعود/أرى» أفعال تَعِد بالحركة لكنها محاطة بسياج النفي واللاجدوى. بذلك يتحوّل الزمن إلى موضوعٍ للقصيدة، لا خلفيةٍ لها: إنّه زمنٌ يُجرِّب المعجزة ولا يُصادفها. كما تقوم البنية الإيقاعية على تقطيعٍ تفعيلي متوتّر وتدويرٍ يمدّ الجمل ثم يقطعها عند أكثر المواضع دلالة. علامات الترقيم المكثّفة (علامات الاستفهام والتعجّب) تنقل القارئ من نَفَس الاستغاثة إلى نَفَس الاحتجاج، ثم يتجاوز الألم، ويعلن في قصيدة«شقيًّا لن تسير إلى..!» الاحتجاج عليه؛ لأنه مجرد زيف وشدو مخادع يقول: كفرتُ بالشدوِ، فانفخ في خواءِ فمي ياسادنَ الصمتِ، واسفحْ من صَباك على ... أضالعي، كلّما راوغتُ خارطةً وأطّرتْنِي: (شقيًّا لن تسير إلى..!) فالبنية الاستعارية في ديوان الشاعر تنطلق من أنساق التاريخ لتسقطه على الضمائر وخاصة ضمير الأنا بوصفه مركزًا إشاريًّا يشير إلى الذات وكينونتها الضائعة«كفرت، راوغت،أطّرتني».إن هذه الرؤيا للعالم والكون بوصفها رؤيا حوارية تاريخية مناسبة للشاعر كي يتجاوز الماضي نحو الحاضر؛ ففي قصيدة «غنائية لنسيان الألم» يراكم الشاعر ملفوظات “الأمل والغد والأفق” لتجاوز محنة الماضي كما هي مستوحاة من حوارية «غرناطة، وقصة يوسف»: تركتُ الأمسَ ينزفُ من ورائي ولم أعبأ بما عاناه خلفي! فــ منذ الغد أولاني مُقامًا وقلبي نازعٌ أصداءَ حتفي .. تنادمني وحولي ألفُ غصْنٍ يراقصها على نسيان نزفي... إنه مسار ذهني ينقل الشاعر من فضاء اليأس نحو تجاوز العتمة، وهذا مابناه الشاعر عبر أفعال لغوية مضمرة في قصيدته«فمٌ يربّي على صوتِ الأسى قلمهْ..!»، فالتساؤلات الوجودية من قبيل : “من قال للضوء: نم”،”ومن قال لليل طف بالموجعين ..؟” تضمر إضافة إلى الدلالة الحرفية والإنجازية الماثلة في المونولوج ومخاطبة الذات دلالة التمرد على الواقع النفسي حيث ينسف الشاعر الماساة ليتطلع إلى صبح جديد. إذن، قراءة ديوان الشاعر تركي المعيني«كآخر الخارجين من غرناطة» تشي بالرؤيا الجمالية والدلالية لقصائد الشاعر. حيث ينطلق عبر مسار ذهني استعاري من الحوارية مع التاريخ «غرناطة، وقميص يوسف» ليسقط مأساتهما على كينونة الذات ثم يتجاوزها إلى غدٍ أفضل من خلال توظيف «التشابه والاختلاف» في الإيقاع والمعجم والبنية التركيبية، وبهذا يخرج ديوان «كآخر الخارجين من غرناطة» من حدود القول الشعري المألوف إلى فضاءٍ تتقاطع فيه الذاكرة مع الرؤيا، والتاريخ مع الوجدان. فالشاعر يكتب من عمق الانكسار نفسه، محاولًا أن يعيد للعزلة معناها، وللغياب صورته الأولى. إنّ قصائده تحوّل الرماد إلى أفق، والفقد إلى نداءٍ للكينونة كي تتجلّى من جديد. وفي ضوء ذلك، يغدو الديوان مشروعًا شعريًا لمساءلة الذاكرة، وتجريبًا لغويًا يروم تجاوز الرثاء إلى مقاومة النسيان عبر تشكيل جمالي متوتر يتكئ على ثنائيات متناقضة: الحضور والغياب، الموت والولادة، الصوت والصمت. الألم والأمل. إن شعر تركي المعيني لا يواسي قارئه، بل يوقظه على هشاشته، ولا يكتفي بتأبين «غرناطة»، بل يزرعها من جديد في جسد اللغة، لتغدو القصيدة نفسها آخر الخارجين منها، حاملةً رمادها وضوءها معًا في آنٍ واحد.