اللهجة العامية ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي وعاء للهويات المتعددة داخل المجتمع ، من خلالها تتشكل الفروق الدقيقة بين جيل وآخر، ومنطقة وأخرى، وحتى بين مهنة وأخرى ، إنها سجلّ يومي حيّ يختزن الموروث الشعبي والمخيال الجمعي، ويعيد تدوير الحكم والأمثال والنكات والأغاني والأحاديث اليومية التي تتناقلها الألسن ، هذه الذاكرة الشفوية، إذا غابت عن النصوص، فستغيب معها أصوات أجيال كاملة ، من هنا تصبح كتابة العامية فعلًا توثيقياً يحفظ أصالة التجربة الإنسانية كما عاشت وتناقلتها الناس ، بهذا المعنى، العامية ليست لغة ناقصة أو هامشية، بل هي أداة غنية ومشحونة بدلالات قد يصعب على الفصحى وحدها أن تلتقطها. من منظور علم النفس، تكشف اللغة العامية عن لاوعي الجماعة: انفعالاتها، مكبوتاتها، وطريقتها في التخفيف من التوتر عبر التهكم والسخرية. فهي اللسان الذي نبوح من خلاله بما في داخلنا مباشرة، قبل أن ننتقل لطبقة لغوية أخرى أكثر رسميّة تفرضها الكتابة بالفصحى، بكل ما فيها من تركيز وانتقاء للكلمات، فالانتقال إلى الفصحى أشبه بعبور عتبة أو إسدال ستار بين الذات كما تتحرك وتتكلم يومياً، وبين ذات أخرى تُستدعى للكتابة ، يحدث هذا التحول في ثوانٍ، دون أن نشعر به. وأنا هنا لا أعيب الفصحى ولا أرفع من شأن العامية على حسابها، بل أشرح كيف تتبدّل النفس بين اللسانين: اللسان المعتاد الذي نتحدث به، واللسان الرسمي الذي نكتب به ، حتى لو كان هذا اللسان الآخر هو الأصح أو الأجدر لأي اعتبارات ثقافية أو اجتماعية، فإنه لا يلغي حقيقة القفزة أو العتبة التي نعبرها لحظة الانتقال من الكلام العفوي إلى الكتابة المنضبطة ، وهذا الانضباط جعل بعض المتحمسين للفصحى يرى أن من لا يكتب بها كسولاً أو جاهلاً أو ما شابه من أوصاف الانتقاص ، وأرى أن هذا رأي متطرف، وهو أحد أشكال الضغط النفسي / الاجتماعي الذي يجعل بعض الناس يبتعدون عن طبيعتهم أثناء الحديث، فيلجؤون إلى الفصحى خشية أن يُوصموا بالجهل أو قلة الثقافة ، وفي المقابل، يمنح هذا التصورُ آخرين مساحة نفوذ رمزي لمجرد إجادتهم للفصحى، حتى لو كان ما يقولونه سطحياً أو مضللاً ، فقد أصبحت الفصحى، في بعض السياقات، أداة سلطة رمزية أكثر منها وسيلة للتواصل. ورغم الانتقاص الذي يتعرض له كتّاب العامية في شبكات التواصل أو في الروايات (خصوصًا في الحوارات) إلا أنّي شاهدت مواقف، وإن جاءت على سبيل المزاح، لكتّاب وكاتبات لا يستطيعون كتابة نص جيد باللهجة العامية رغم محاولاتهم المتكررة ، وقد رأوا في ذلك أمرًا إيجابيًا بالنسبة لهم، معتبرين أنهم يميلون إلى الفصحى بطبيعتهم التي قد يسميها البعض ( فطرة ) أثناء الكتابة ، ولكن هذه المواقف لها وجه آخر ، وهو أن الكتابة بالعامية ليست بالأمر السهل لاسيما أن كنت ستكتب نصاً ، وليس مجرد كلمتين أو سطر . ولعل ما يقوله الدكتور لويس عوض في كتابه مقدمة في فقه اللغة العربية يمنحنا زاوية نظر مختلفة: فالعامية ليست مجرد تشويه للفصحى كما يظن البعض، بل هي امتداد طبيعي لها عبر القرون. كثير من المفردات التي نستعملها في أحاديثنا اليومية اليوم، هي في الحقيقة ألفاظ عربية قديمة اندثرت من الاستعمال الفصيح وبقيت في العامية. بهذا المعنى، العامية ليست لغة دخيلة بل ذاكرة تاريخية تحتفظ بملامح من الفصحى الأولى، وتعيد تدويرها بما يناسب حياة الناس . لماذا أصبحت الكتابة بالعامية مهمة؟ سأتحدث هنا عن شبكات التواصل تحديدًا، لأن المنصّات المخصّصة للكتابة عادةً ما تفرض شروطًا محددة، من بينها الالتزام بالفصحى. أما شبكات التواصل فهي فضاءات شخصية تمامًا، يختار فيها الفرد اللغة التي يكتب بها دون قيود، مما يمنحها قدراً أكبر من الحرية والراحة في التعبير، كما أنها قنوات مؤثرة وليست جانبية أو هامشية. أقرأ في منصّات التواصل المختلفة لحسابات من جنسيات عربية متنوّعة، ولأشخاص يحملون شهادات عليا، ويشغلون مناصب علمية ووظيفية مهمة، ولديهم مخزون لافت وقوي من الثقافة والمعرفة والأفكار ، وكثير منهم يكتب في مجلات وصحف ومواقع محترمة ذات وزن وتأثير ، حين يعبّرون عن آرائهم في حساباتهم الشخصية، يكتبون بلهجاتهم العامية ، وحتى لو كتبوا بالفصحى ، التعليقات من أناس يماثلونهم بالقيمة الثقافية تكون بعامية بلدهم ، حتى تجد هذه النقاشات تستشهد بمفردات أو عبارات قديمة من تراثهم الشعبي، أو يستحضروا أمثلة محلية داخل سياقات متنوعة / ثقافية / اجتماعية / سياسية ، ولا أرى أحداً في التعليقات يسخر منهم لأنهم لا يكتبون بالفصحى ، على العكس تماماً، تبدو التعليقات كأنها تدور داخل مقهى ثقافي أو ملتقى فني، تُكتب هي الأخرى بلهجات عامية مختلفة، دون أدنى شعور بالنقص أو الحاجة لتبرير استخدام اللغة اليومية. هذا المشهد يعكس حقيقة بسيطة: اللهجات العامية ليست عائقًا أمام الفكر أو القيمة أو العمق ، بل هي وعاء حيّ للفكرة، وامتداد طبيعي للثقافة التي ينتمي إليها الكاتب والقارئ معاً . عندما كنت أبحث عن معلومات مختلفة خاصة باللهجة السعودية عبر الذكاء الاصطناعي لم أكن أحصل على المعلومة ، مما يعني أن الذكاء الاصطناعي لم يتغذَّ على اللهجة السعودية بسبب نقصها في الانترنت . أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي يتحدث دائمًا بلهجة إحدى الدول ، وبمجرد أن أتحدث معه بالعامية، يردّ عليّ بتلك اللهجة تحديدًا، رغم أني أخاطبه باللهجة السعودية. وحين سألته عن سبب تمسّكه بهذه اللهجة، أجاب أن تدريبه اعتمد بشكل كبير على محتوى شبكات التواصل الخاصة بأهل تلك اللهجة . قرأتُ إعلانًا في إحدى شبكات التواصل عن مركز يقدّم دورات تدريبية مدفوعة لتعليم لهجة بلد معيّن، مع إتاحة خيار للمتدرب لاختيار لهجة منطقة محددة داخل البلد، أو تعلّم اللهجة الدارجة عموماً ، وفي مكان آخر، وجدت إعلاناً يطلب شباباً للعمل عن بُعد برواتب مجزية مقارنة بمستوى الدخل في تلك الدولة، يكون دورهم نشر لهجة بلدهم في منصات مختلفة على الإنترنت، بهدف تغذية أنظمة الذكاء الاصطناعي بها. هذه الأمثلة تبيّن أن اللهجة العامية ليست لهجة هامشية أو عابرة، بل لهجة أصيلة ومتجذّرة ومهمة ، ورغم محاولات التقليل منها عند استخدامها في الكتابة، سواء بالسخرية من كتّابها أو التلميح بأنها (أقل شأناً)، إلا أنها ما زالت حاضرة بقوة ، والمفارقة أن كثيراً ممن يحاربونها يتحدثون بها طوال يومهم ، والغريب أن المعترضين على العامية كثيراً ما يرون أن الإشارة إلى كون أحاديثنا اليومية تتم بها ، أنه نقاش ( بلا معنى ) ، وهذا الموقف في حد ذاته يكشف أنهم لا يملكون رداً مقنعاً، فيلجؤون إلى تعليق الفكرة على شماعة أنها فكرة لا تستحق النقاش . سجلت الدكتورة لمياء باعشن في أحد اللقاءات ملاحظة على الأديب وسادن الأساطير والأمثال عبد الكريم الجيهمان في مجموعته الثرية والغنية (أساطير شعبية من قلب الجزيرة العربية) أنه أخطأ حينما كتبها بالفصحى، فالأساطير والحكايات يفترض أن تكتب كما هي دون تدخل من الجامع لها . وأتفق جدا مع الدكتورة لمياء فأحد مميزات وجماليات الحكايات الشعبية ليست فقط القصة ذاتها ولكن مفرداتها ، مفرداتها التي تحمل تاريخاً كاملاً. كان الشاعر مظفر النواب يعمل معلماً في جنوب العراق بداية السبعينات، وكان يجري مسابقة داخل الفصل: أي طالب يأتيه بمفردة شارفت على الاندثار في الجنوب ، سمعها من والديه أو أجداده ، يمنحه هدية ودرجة إضافية . باتت الكتابة بالعامية، خصوصًا في شبكات التواصل، أكثر ضرورة مع الضعف العام الذي نراه في الحوارات الدرامية. هناك شبه إجماع على أن الحوار في الدراما ضعيف ومفكك وتتداخل فيه مفردات لا تمت للمجتمع السعودي بصلة ولكنها مقتبسة من مفردات مجتمعات أخرى وذلك لتواجدها المكثف في الدراما الخاصة بهم وأيضاً بكتاباتهم العامية في شبكات التواصل ، وهذا الاقتباس من تلك اللهجات بدون وعي وإدراجها في حوارات الدراما السعودية دليل على سطوة وقدرة اللهجة على الانتشار والسيطرة على أطراف بعيدين عن مجتمعها. ولا يعود هذا الضعف إلى نقص المفردات فقط ، فالأسباب كثيرة ومتداخلة ، لكنه مرتبط أيضاً بنمط من التواصل الجاف الذي أصبح يطغى في اللقاءات الإعلامية ، نرى مراسلًا صحفيًا يلتقي بكبار في السن أو في قرى ومحافظات ويستخدم الفصحى في لقاء يتناول الحياة اليومية أو التراث ! مما يفسد المشهد ويربك الضيف ، ويختفي الجو الحميمي الذي يُفترض أن يكون عنصر الجاذبية في اللقاء ، وليس بالضرورة والوضع عند الشباب والأطفال قد يكون أوضح: عندما يتحدثون بالعامية التي هي لغتهم اليومية يبدؤون حوارهم بانطلاق وبساطة، ثم يتلبّسهم فجأة شعور الرغبة في كسب الإعجاب، أو الخوف من الانتقاد، أو محاولة إثبات أنهم قادرون على مجاراة (الثقافة) بالتحدّث بالفصحى ، فيترددون، ويتلعثمون بحثاً عن المفردة المناسبة وكأن اللغة أصبحت معركة لا وسيلة تواصل. وكثير من هذه اللقاءات تحوّل إلى مادة ضحك وسخرية بسبب الكلمات الفصحى غير الصحيحة التي تم استخدامها ، كل هذا بسبب الضغط النفسي الاجتماعي الذي يختزل قدرات الناس وثقافتهم في إجادتهم للغة الفصحى ! هناك من يردّد أن العالم العربي لا يعرف اللهجة السعودية، وسمعت في أحد اللقاءات مصحّح لهجات في الدراما السعودية يتبنّى هذا الرأي، ويرى أنه من الأفضل التخفف قدر المستطاع من المفردات المحلية والاعتماد على ما يُسمّى (اللهجة البيضاء) لكونها أسهل على الجميع ، وعندما أراد تقديم مثال لدعم وجهة نظره، استشهد بعبارة تنتمي إلى قاع لهجة محلية داخل منطقة سعودية محددة، وهي لهجة لا يعرفها حتى كثير من أبناء المدينة نفسها ، وهذا في الحقيقة مثال غير دقيق على الإطلاق، لأن الحديث ليس عن اللهجات العميقة أو المفردات القديمة التي اندثرت وصار مكانها كتب التوثيق ، فجميع الدول تقريباً لديها مثل هذه المفردات الشعبية القديمة، وهذا أمر طبيعي لا يختصّ ببلد دون آخر ، ما نتحدث عنه هو اللهجة السعودية المتداولة يومياً ، وهي مختلفة عن اللهجة البيضاء ، لهجة ما زالت تحتفظ بكثير من مفرداتها الخاصة المتوارثة، ورغم قدمها فهي معروفة ومستخدمة على نطاق واسع ، هي اللهجة التي نتحدث بها في بيوتنا ومجالسنا، وتُقال في القصائد والأغاني ، فما الذي يجعلها مقبولة ويحتفى بها في الأغاني ومرفوضة في الحوارات الدرامية أو في كتاباتنا على شبكات التواصل؟ وقد لاحظتُ أن الكثير من صُنّاع المحتوى الذين يسردون قصصاً شخصية أو منقولة يتحدثون بعامية تلقائية تستخدم مفردات قد لا يعرفها أبناء المناطق الأخرى ، وما إن يظهر مقطعٌ منهم حتى تمتلئ التعليقات بالأسئلة عن معنى كلمة ما، وهذا يعني أن المفردات يتم الاحتفاء بها وتعلّمها من خلال (السواليف ) ، الأمر ذاته يحدث اليوم مع إعادة إحياء الأغاني القديمة؛ فقد كانت تلك الأغاني مليئة بمفردات تلاشى استخدامها اليوم، لا لضعفها أو تجاوز زمنها، بل بسبب الاستعانة ،دون وعي ، بمفردات من لهجات دول أخرى، كونها الأكثر حضوراً في الإعلام وشبكات التواصل ، هذا النوع من التأثر لا يكون متعمّداً ، بل يتسلل مع الوقت دون شعور. وهذا كلّه يدلّ على أن الزمن وانتشار الاستعمال هما المحركان الفعليان لانتشار المفردات، لا سهولتها ولا صعوبتها ، والدليل أن كثيرًا من الجنسيات العربية الموجودة على منصة تويتر (أو “إكس” حاليًا)، وبحكم كثافة الحضور السعودي فيها، تعلموا بالفعل عدداً كبيراً من المفردات والعبارات ومعانيها، فقط لأنهم تعرضوا لها باستمرار ، المشكلة ليست في صعوبة اللهجة، بل في أنها غير مُعلنة بما يكفي في المساحات العربية المشتركة ، فعلى سبيل المثال، عندما يحلّ ضيف سعودي في برنامج مصري، تجده يتحدث بالمصرية فجأة ربما من باب المجاملة، وربما لأنه يشعر بشيء من الحرج إذا قال له المذيع: “ممكن تعيد؟ ما فهمتش. أتذكر شابًا سودانيًا صاحب قناة في اليوتيوب يتحدث باللهجة السودانية التي يمكن وصفها بـالسودانية البيضاء ، ورغم ذلك جاءته تعليقات تقول إن كلامه غير مفهوم! والحقيقة أن كلامه كان واضحاً جداً ، مما يعني أن هناك (قناعة مسبقة ) لدى البعض، أشبه بإيديولوجيا ذهنية جاهزة: أول ما يسمعون لهجة خليجية أو بعض اللهجات العربية الأخرى يعلّقون مباشرة ( ما فهمنا! ) أو يقلّدون بعض المفردات بأسلوب ساخر ، وهذه ليست مشكلة في اللهجة بقدر ما هي مشكلة في التوقّع ! ولكن الشاب رفض التخلي عن لهجته، وطلب ممن يجدون صعوبة في فهمها أن يتحلّوا بقليل من الصبر إذا كانوا مهتمين بمحتواه ، ومع مرور الوقت، اختفت طلبات تغيير اللهجة تماماً ، وتوجه التركيز على المحتوى ، بل وتعّرف عدد من الجنسيات المختلفة على مفردات سودانية ، يستعملونها في التعليقات من باب الود والمزاح أو الثناء على مفردات لمس بعضهم فيها لطف أو رقة أو شيئاً جديداً ناسب مزاجه السمعي ، وهذا طبيعي جدًا: الأذن تتعوّد مع التكرار. ولهذا، ربما يكون المطلوب اليوم هو الإكثار من استخدام اللهجة السعودية في الإعلام والحوارات والبرامج، وحساباتنا الشخصية في شبكات التواصل ،بدل اللجوء للفصحى باعتبارها (اللغة المفهومة عربياً ) ، كل شعب يتحدث لهجته، ويحافظ عليها، ويقدّم نفسه بها، ويتوقع من الآخرين أن يتعودوا عليها إذا كانوا مهتمين بالمحتوى ، واليوم نحتاج للعامية أكثر من الزمن الماضي بسبب التغير الذي نعيشه ، وبسبب دور الذكاء الاصطناعي الذي تسعى كثير من الدول لتغذيته بلهجاتها حيث تعتبر هي أحد صور التواجد والانتشار والتعرف والتقارب ، الصوت الحقيقي ، المحكي، المباشر، الحي ، هو أحد الصور التي تمثل المجتمعات .