عندما كانت الحياة أبيض وأسود.
كنتُ في المرحلة الثانويَّة عندما بدأ النَّقل التلفزيوني في أبها عام ١٩٧٨م، كان الاستعداد لهذا الحدث يشوبه التَّرقب من مجهولٍ قادمٍ، وأسهم الوعَّاظ في وضع حواجز بين النَّاس وتطلعاتهم، فظلَّ الحديث همسًا بين الناس، من يجرؤ أن يشتري تلفزيونًا؟!! ومن الَّذين غامروا بشرائه أبي الَّذي اصطحبني معه لنشتري جهازًا، رأيته يفاوض البائع بين السعر وحجم الشَّاشة، واستقرَّ الأمرعلى جهاز من شركة (سانيو) دون ألوان (أبيض وأسود)، لا أنسى عندما وضعه أبي في مجلس الرجال، وغطَّته أمي بملاءةٍ بيضاء، كان الوقت صباحًا، والبث لا يبدأ إلا عند الخامسة عصرًا، ظلَّ التلفزيون صامتًا، ونحن نختلس النَّظر إليه من وقتٍ لآخر حتَّى فتح أبي الجهاز، وبدأت شارة التَّشغيل الموسيقيَّة، فالسَّلام الملكي، ثمَّ القرآن الكريم، ثمَّ أطلَّ المذيع يقرأ برامج اليوم، لا أستطيعُ أن أصف جحم الدَّهشة وعمقها؛ الَّتي لفَّت المكان في ذلك المساء. لم يكن كلُّ الجيران قد اقتنوا جهازًا: إمَّا لكلفته، أو لتخوفٍ اجتماعيٍ أو دينيٍ، فقد نشط الوعَّاظ في تلك الفترة للتَّحذير من مفاسده، ونسبوا إليه كلَّ مصائب الدُّنيا، والمفارقة ألَّا أحد يمانع من المشاهدة، لكن ليس في بيته، بل في بيوت الجيران الَّذين تحمَّلوا تبعات النَّقد والتَّجريح. ومن غرائب اللَّحظات أنَّ رجال الجيران كانوا يكثرونَ الحديث مع أبي، ويماشونه إلى بابِ البيت أثناء عودته من المسجدِ، لعلَّه يدعوهم لقضاء السَّهرة في بيتنا، ومؤكدٌ أنَّها دعوة مشاهدةٍ وعشاءٍ، وسلامةٍ من نقد المجتمع!!