بانتظار أن يصحو ثانية.
عرفت سعيد السريحي أو بالأحرى سمعت به أواسط الثمانينات. كان ذلك حين التقيت محمد الثبيتي لأول مرة. وكان ذلك في الرياض حين دعاني إلى لقائه الصديق المشترك الشاعر الآخر، والراحل الآخر أيضاً، عبد الله الزيد في منزله، ومن الحديث الذي دار مع الشاعر الشاب (كلنا كنا شباباً آنذاك) عرفت عن ناقد أعجب به محمد كثيراً. قال إن اسمه سعيد السريحي وأن لديه موهبة كبيرة في نقد الشعر الحديث وأن بينهما صداقة متنامية، أو هكذا أذكر. لم أحتج إلى وقت طويل لأكتشف أن ما قاله الثبيتي، الشاعر الذي سيصير كبيراً، أن الناقد الذي تحدث عنه كان في طريقه إلى أن يكون كبيراً أيضاً، بل إلى اعتلاء سدة الإبداع النقدي. أدركت ذلك حين التقيت أبا إقبال في فترة مقاربة وفي نادي جده الأدبي بدعوة من النادي لإلقاء محاضرة هناك. ولم تتوقف اللقاءات منذئذٍ. كانت بداية صلة أرجو من الله أن تستمر بعودة أبي إقبال إلى عافيته ونشاطه المعهودين. التقينا كثيراً وفي أماكن كثيرة، وكان ذلك في الثمانينيات والتسعينيات بصحبة الطليعة المثقفة والمبدعة من الشعراء والكتاب والنقاد: عبد الله نور وعلي الدميني ومحمد الدميني وعبد الله الصيخان وصالح الأشقر ومحمد جبر الحربي ومحمد عبيد الحربي وحسن السبع وعبد الرؤوف الغزال وأحمد الملا وآخرين يصعب حصرهم. التقينا في الرياض وفي جدة والطائف وجازان وأبها والدمام والأحساء والجوف وغيرها. كل ذلك على منصات شامخة لإنتاج الأدب والثقافة والمعرفة. ولم تكن كل تلك المنصات منابر للإلقاء أو النقاش فحسب وإنما كان من بينها منصات للكتابة والتحرير، كانت المجلات ومنها (النص الجديد) التي جمعتنا بالراحل الكبير علي الدميني وأصدقاء آخرين. منصة أخرى كانت في البحرين، في مؤتمر كبير للنقد الأدبي دعت إليه جامعة البحرين إبان التسعينيات. أذكر تلك المنصة أو اللقاء لأهميته الخاصة بالنسبة لي شخصياً. قال لي سعيد واحدة من تلك العبارات التي تمسك بتلابيب الذاكرة بقدر ما تصنع الأحداث وتغير الاتجاهات. قال: لم لا نرى لك نشاطاً في الترجمة؟ وأضاف عبارات محفزة شعرت إزاءها بالخجل من أنني مع كل ذلك التأسيس في الآداب الأجنبية لم أنشغل بالترجمة منها أو إليها. وكان أن بدأت فعلاً ولكن متأخراً في ما أعده اليوم جانباً رئيساً من مساهمتي في المشهد الثقافي العربي. تلك كانت إحدى ثمار الصلة بأبي إقبال أذكرها اليوم لأول مرة. لكن لقاءاتي بسعيد لم تكن دائماً على ذلك المستوى المبدع أو في ذلك الاتجاه المحفز على العطاء. التقينا أيضاً لقاءات مؤسفة، هذه المرة على صفحات من هاجموا الحداثة من مناوئي الحراك الأدبي آنذاك وكذلك ممن تحدثوا باسم الحداثة وادعوا زعامتها أيضاً. غير أن لقاءاتنا الفعلية الحقيقية لم تتوقف. التقينا، وفي كل لقاء من لقاءاتنا كانت الرؤى تنمو والأفكار تنضج في أحاديث ومقالات وكتب وندوات ومحاضرات كلها تسهم أو تسعى للإسهام في رسم معالم الحراك الأدبي والفكري السعودي. وكان للدكتور سعيد قصب السبق في الكثير مما كان يلقى ويكتب وينشر. وكان هو ذاته الدكتور الذي دوت باسمه اللقاءات والمنتديات حين صعد بالدكتوراه المستحقة لتهبط المؤسسة الأكاديمية بتراجعها عن منحه إياها. صعد بمنتج عجز عنه كثير ممن ظنوا أنهم قادرون على سحب اللقب منه والتقليل من أهمية فكره وأطروحاته. دخل سعيد السريحي حيز الأساطير بتلك الواقعة التي وضعت حراك التحديث الثقافي على محك المؤسسة الجامعية العاجزة عن مجاراة التغيير، كما هو شأن المؤسسات غالباً بما يثقل كاهلها من أنظمة وعقول يصعب عليها رؤية التغيير. واجه سعيد ذلك كله بروح شجاعة وعقل رحب، ثم واجه آخرين ممن تصدوا لما أنتج هو وغيره، واجه إعلاميين وكتاب صحف وأهل منابر من أهل “الصحوة” وغيرها. “كي لا نصحو ثانية: تفكيك خطاب الصحوة وآليات الهيمنة على المجتمع”، كان ذلك عنوان كتاب سعيد رداً على مهاجمي الحداثة. كان بذلك يكتب الحكاية الأصدق للحداثة ونقيضها. يكتبها من زاوية من رأى التغيير ينتشر في أرجاء المملكة في رؤية مبشرة بالجديد والمنفتح، الرؤية التي بثها عهد جديد أطلق عقال الطاقات من مكامنها وأتاح لعقل مثل عقل سعيد السريحي أن يتنفس العطاء من جديد. أكتب هذه الكلمات بدعوة من الصديق المثقف والإعلامي البارز أ. علي مكي وهو وأنا، بل نحن جميعاً، بانتظار عقل سعيد أن يتنفس من جديد. رد الله له ولنا أنفاسه المفكرة المبدعة. كلنا بانتظار أن يصحو ثانية لكي نصحو معه.