جائزة الملك خالد.. يرحل المانح ويبقى الأثر.

تبرز الجوائز العالمية كمنصات لتطلق العنان لطاقات الإنسان. لكنّ بعض الجوائز تتجاوز مفهوم التكريم التقليدي لتصبح مشروعًا تنمويًا قائمًا بذاته، مشروعًا يعيد صياغة مفهوم العمل الاجتماعي والتنموي، ويمنحه بعدًا مؤسسيًا حديثًا يستند إلى رؤيةٍ واضحة، ورسالةٍ سامية، ومنهجية قياس أثر واستدامة. ومن بين تلك الجوائز التي استطاعت أن تحتل هذا المقام الرفيع، وتبني لنفسها موقعًا رياديًا على خارطة التنمية الوطنية “جائزة الملك خالد” التي تحوّلت خلال أقل من عقدين إلى أيقونة سعودية تُعنى بتكريم الأفراد والمنظمات والمبادرات التي تسهم في تغيير حياة الناس وتحسين فرصهم وفتح أبواب المستقبل أمامهم. وقبل الحديث الموسع عن الجائزة، لا يمكن تجاوز شخصية من تنسب إليه، وتستمد منه قيمها العالية “الملك خالد بن عبد العزيز” رحمه الله. الذي كان كوالده “الملك عبد العزيز” طيب الله ثراه، وصنو إخوانه البررة. محبًا لشعبه، ومهتمًا بالضعفاء. إن هذه الملامح الإنسانية ليست مقدمة لسيرة ملك، بل هي مفتاح لفهم فلسفة المؤسسة التي تحمل اسمه. ففي عام 1421هـ، تأسست “مؤسسة الملك خالد الخيرية” كرافعة مؤسسية تُجَسِّد قيم الملك خالد وتبرز مبادئه السامية. وفق استراتيجية واضحة تقوم على أربع ركائز كبرى هي الاستثمار الاجتماعي، وبناء القدرات، وتصميم السياسات، والاستدامة، بالإضافة إلى برنامج الزمالة (شغف) الذي يُعدّ أحد أهم مبادراتها النوعية لبناء جيل جديد من قيادات القطاع غير الربحي. ولم يكن مستغربًا أن تتبنّى المؤسسة نهجًا احترافيًا جادًا في بناء الشراكات مع الجهات الحكومية، وشركات القطاع الخاص، وفي مساندة الجمعيات الأهلية وتطوير أنظمة عملها، وفي قيادة حملات وطنية لتعزيز الثقة بالقطاع غير الربحي مثل حملة “قَد الثقة” التي جاءت في لحظة مفصلية خلال جائحة كورونا لتذكّر المجتمع بدور الجمعيات الخيرية، وتعيد إبراز مستوى الحوكمة والشفافية التي يعمل بها هذا القطاع الحيوي الهام. إنها ليست مؤسسة إدارية فحسب، بل هي عبقٌ لروح قائدٍ صالح، ورجل دولة آمن بأن قوة الوطن تبدأ من اهتمامه بالضعفاء، وبأن التنمية لا تكتمل إلا حين تتكافأ الفرص أمام الجميع. وأن عين الوطن لا تكتحل إلا حين ترى الجميع سُعَداء. هذه الروح التي رسمت ملامح شخصية الملك خالد بن عبد العزيز – رحمه الله – وميّزت حضوره وقراراته، ظلت تنبض حتى بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى، عبر مؤسسة تحمل اسمه بجلاء، وتترجم قيمه على الأرض، وتستعيد أثره الخالد في كل مشروع. حيث قال “صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن خالد بن عبد العزيز” رئيس مجلس أمناء مؤسسة الملك خالد “إن مؤسسة الملك خالد، وضعت الإنسان في دائرة اهتمامها أولًا، لأنه الأساس في تحقيق الأثر الإيجابي، وسعت لأن تسهم في بناء مجتمع عصري تتكافأ فيه، وتتعاظم به الفرص، ويسعى أفرادُهُ دومًا للازدهار. كما كان يرى الملك خالد بن عبد العزيز – رحمه الله – حين قال إننا نحرص على بناء قاعدةٍ اقتصاديةٍ قوية أساسها وقاعدتها الإنسان السعودي الذي نبني فيه القدرة على التعامل مع منجزات العصر، تلك القدرة التي أصبحت في مستوى رفيع من الأداء”. مِنْ رَحِم “مؤسسة الملك خالد” وُلدت “جائزة الملك خالد” تلك الجائزة التي لا تكتفي بتكريم المتميزين، بل تمنحهم أيضًا تقنيات النمو لرفع كفاءاتهم وتعظيم أثرهم المجتمعي. وخلال أكثر من عقد من الزمن، تحوّلت الجائزة إلى منصة وطنية تُعلي من قيمة الابتكار الاجتماعي، وترفع من مستوى الأداء الإداري في المنظمات غير الربحية، وتفتح آفاقًا جديدة للشركات والمؤسسات في مجال الاستدامة. تقوم “جائزة الملك خالد” على ثلاثة فروع رئيسة، في مجالات مهمة من منظومة التنمية الوطنية، هي “جائزة الملك خالد لشركاء التنمية” لتكريم الأشخاص والمنظمات التي أحدثت فرقًا ملموسًا في حياة المجتمع عبر مبادرات اجتماعية مبتكرة، و “جائزة الملك خالد لتميّز المنظمات غير الربحية” التي ترسم خارطة طريق لمساعدة المنظمات الأهلية على تحقيق كفاءة أعلى في خدمة المجتمع، و”جائزة الملك خالد للاستدامة” لتكريم المؤسسات التي جعلت الاستدامة جزءًا من هويتها الاستراتيجية، وليس مجرد نشاط علاقات عامة. وحين نتأمل فروع الجائزة ومبادراتها الإبداعية، ندرك أن أثرها يتجاوز التكريم إلى ما هو أبعد، إذ تتحوّل إلى منصة لتسريع التغيير الاجتماعي من خلال رفع كفاءة المنظمات غير الربحية، ودعم الابتكار الاجتماعي، وتسريع نشر ثقافة الاستدامة في المنظمات. هناك أسباب عديدة جعلت “جائزة الملك خالد” تحظى بهذا الاحترام الراسخ، والقبول الواسع، من أهمها اثرًا أن الجائزة ليست مناسبةً احتفاليةً تنتهي بإسدال الستار، وإطفاء المصابيح، بل عملًا تنمويًا يرافق المُكَرَّم طيلة مسيرته المهنية. وهي أيضًا انعكاس لإرادة وطنٍ طموح قرر أن يُكَرِّس العدل ويعلي من كرامة الإنسان، ليجعل من العطاء منهجًا مؤسسيًا، ومن القطاع غير الربحي شريكًا فاعِلًا في التنمية، ومن الاستدامة حجر الزاوية في بناء المستقبل. ولذلك، فإن كل دورة من دورات الجائزة ليست مناسبة عابرة، بل فصل جديد من قصة “أثر خالد” قصة بدأت بملك أحب الناس، واستمرّت بمؤسسة حملت إرثه، وتكتمل اليوم بجائزة تُمْنَح لكل من يصنع الفرق في حياة المجتمع. ليبقى الأثرُ دائمًا بعد رحيل المانح.