محمد مسلم الفايدي..

الصحفي «الخفي» وكيل البسطاء.

عرفت الأستاذ محمد بن مسلم الفايدي عام 2000م عند مرافقتي للأستاذ عبد الكريم الجهيمان لحضور تكريمه في اثنينية عبد المقصود خوجة بجدة، وقد استضاف الجهيمان ورفاقه صديقه الأستاذ عابد خزندار في الليلة التي تسبق التكريم بمنزله بجدة وضمن من حضر اللقاء الفايدي، وكان معجباً بالضيف والمضيف وهو يستمع بشغف لذكرياتهما، قلت له إن الجهيمان سيزور الشاعر عبدالرحمن المنصور بالأحساء بعد أيام، فرحب وفرح بحضور المناسبة، وفعلاً تمت الزيارة وقضينا وقتاً مع المضيف المنصور ومجموعة من الأصدقاء منهم أحمد المغلوث. وقد سمع الفايدي حديثاً ما اعتبره كسباً صحفياً كتب عنه بعد ذلك ونشره في كتابه (كلام لا يهم أحداً).  استمرت علاقتنا بالمراسلة، وإن كان قد تم اللقاء مرة أو مرتين عند زيارة جدة، وسمعت بتعرضه لمشاكل صحية وسريعاً ما نعاه الناعي رحمه الله.  ترجم له في (موسوعة الشخصيات السعودية) لمؤسسة عكاظ للصحافة والنشر «ولد عام 1366هـ 1947م بجدة، عمل بعد الابتدائية موظفاً بوزارة الزراعة والمياه حتى عام 1384هـ 1964م. لكن استهواه العمل الصحفي فبدأ متعاوناً بجريدة الرياض 1971م ثم محرراً غير متفرغ بجريدة عكاظ 1975م ثم بجريدة المدينة 1977م ثم عاد إلى عكاظ ليعمل حتى عام 1982م، ثم انتقل إلى مجلة اقرأ وأصبح سكرتيراً لتحريرها، ثم عمل مديراً لمكتب جريدة الندوة بجدة.  اتجه للعمل التجاري 1992م ثم عمل بالشركة الوطنية الموحدة للتوزيع، ولكنه احتفظ بعلاقته بالصحافة كاتباً غير متفرغ.  وهو أول صحفي سعودي يتجه إلى تقمص الشخصيات في التحقيقات الصحفية حيث أدى عدة شخصيات منها: المتسول، وصاحب بنشر، ومقشر سمك، وسائق تكسي، ومعقب، صدر له كتاب بعنوان (كلام لا يهم أحداً، 2002م».  وكتب عنه الأستاذ علي حسون - رئيس تحرير جريدة البلاد سابقاً- في كتابه (شخصيات وذكريات) «كان واحداً من أولئك الذين أتو من قاع المدينة بكل ما يحمله ذلك المجيء من إحساس بالمعاناة، في فمه ملوحة البحر وعلى وجهه (اكفهرار) الأيام المضيئة .. كل ذلك أعطاه قوة الكفاح وديمومة العطاء .. فكان من أصحاب الكلمة الحراقة صدقاً .. ليس عنده في الحياة إلا لونين أبيض وأسود ولا يعرف اللون الرمادي... كان يحمل في وجدانه كل تلك القيم التي تجعله يكافح عن من هم في قاع المدينة... مهما عرضه ذلك لكثير من الأذى والكثير من اللوم والجحود… كان صادقاً في علاقاته لا يعرف التلون أو حتى الطبطبة على الأكتاف .. لهذا دخل إلى وهج العملية الصحفية من بابها الواسع والصادق فحقق نجاحاته تلك بكل جدارة واقتدار... لقد كان من أصحاب الهمم النادرة على الدخول في أعماق ما يعانيه المجتمع من ضروب الحياة ومتاعبها…» ص 159-160  وقال عنه زميله الصحفي علي خالد الغامدي: «كثير من الذين عملت معهم، أو عملوا معي في دنيا الصحافة كان لهم أكثر من وجه، وكان محمد الفايدي من القلة النادرة ذات الوجه الواحد .. تحية لهذا الصحفي العنيد الذي يخلط عرقه بدمعه عندما يكتب، وتكون أسلحته الصدق والصراحة، والبساطة والعفوية وهي أسلحة تختفي كثيراً من السوق الصحفي فيذكرنا بها هذا البدوي النبيل».  وقال عنه الشاعر عبد المحسن حليت: «وأخيراً ظهر كتاب عمنا (اللورد) محمد الفايدي .. ولعل أجمل مافي هذا الكتاب هو ذلك التعصب الشديد للبسطاء، والمقت الشديد للعابثين بمصائر الناس ..  فـ (عمنا) - في معظم ما يكتبه - لا يكتب بقلم بل (بمشرط) لأنه يشعر أن الذين تهزمهم جرة قلم قد رحلوا وبقي الذين لا تهزمهم إلا مدافع الهاون .. وصواريخ الكاتيوشا .. وهو أيضاً لا يملك مكتباً فخماً كالكتاب الكبار، ولكنه يملك صالوناً يحلق فيه رؤس الطواويس والديناصورات .. وبعض الكتاب الذين يلوثون الهواء، ووجه الأرض، ورئة السماء.  وكم حاول بعضهم ترويضه ليصبح كاتباً مطيعاً وتلميذاً يسمع الكلام، ولكنه أصر على أن يظل دائماً طلقة مسدس .. وكم حاول هو أيضاً أن يكون كاتباً دبلوماسياً، وكان يفشل كل مرة .. فهو يتزوج الدبلوماسية بعد العشاء ويطلقها قبل شروق الشمس.  إن البسطاء الذين دافع عنهم هذا الكاتب، وقاتل بالنيابة عنهم، وجرح بالنيابة عنهم، سيفرحون بهذا الكاتب .. وسيزوجونه أحلى بناتهم.. وسيفتحون له دكاناً صغيراً يبيع فيها الحلوى وشراب التوت».  وكتب عنه كثير غيرهم شهادات صادقة منهم الأساتذة: عبد الله الجفري، ومحمد صادق دیاب.  وودعه بعد وفاته الأستاذ محمد أحمد الحساني قائلاً: «عرفت الكاتب الصحفي محمد مسلم الفايدي - رحمه الله - قبل ما يزيد على أربعة عقود عندما ترك عمله الرسمي في إدارة مكافحة الجراد التابعة لوزارة الزراعة ليتجه نحو الصحافة، وعلمت منه أن تعليمه لم يتجاوز المرحلة الابتدائية، ولكن ثقف نفسه بالاطلاع والقراءة حتى تمكن من الكلمة والحرف، ومارس العمل الصحفي بداية في هذه الجريدة عكاظ، وكان حسب علمي أول صحفي محلي قام بتحقيقات صحفية (تقمص) من خلالها شخصيات بسيطة، مثل مهنة سائق سيارة أجرة أو ساعي بريد، أو معقب أو متسول، ليكتشف من خلال تحقيقاته تلك عن الأسرار في قاع المجتمع قد تغيب تفاصيلها عن معظم أفراده المنغمسين في تفاصيل أكبر، إضافة إلى تحقيقات صحفية جريئة تكشف قصور جهات خدمية.  وعندما أنشأ الدكتور عبد الله مناع مجلة إقرأ في منتصف التسعينيات جذب إليها الفايدي ضمن أسماء صحفية صاعدة بقوة في حينه ... فلما أقيل المناع عام 1407هـ ترك مع معظم تلك الأسماء مجلة إقرأ... وقد جمع بعض مقالاته في كتاب أصدره تحت عنوان (شيء من حتى) وأذكر أن عبد الله باجبير كتب ذات مرة في عاموده اليومي بالشرق الأوسط مبدياً إعجابه بالصور الاجتماعية والإنسانية التي تختزنها مقالات الفايدي، وأنها لا تقل عن الصور المكنونة في بعض الروايات العالمية.  رحم الله الصديق الوفي والصحفي النقي محمد الفايدي، فقد كان يمثل ظاهرة صحفية يجسد العصامية في أصدق صورها الثقافية والاجتماعية ..». رثاه كثير من الكتاب وعددوا كثيراً من صفاته وذلك ما أجمع عليه أغلب قرائه وزملائه الكتاب والإعلاميين... مع أنه عاش طفولة قاسية بعد وفاة والده منذ ولادته، إلا أن الله هيأ له من يقوم بتربيته (مهنا القوفي)، ولكنه ما لبث أن دخل الصحافة من أبوابها الواسعة، بدأ بها مخبراً صحفياً، يكتب الخبر فيأخذه المجيز ويرمي به في سلة المهملات، إلى أن أصبح مسؤولاً عن الصفحة الأخيرة من عكاظ.  وقال آخر - لم يكتب اسمه - فوجد نفسه مطروداً من الصحافة فلم يجد سوى فتح بقالة لبيع المواد الغذائية التي تحولت فيما بعد إلى تجمع للصحفيين لقربها من شارع الصحافة، إلى أن أغلقها... ذلك الصحفي الذي يحمل (البداوة) الفطرية، جعل من نفسه ضمير مهنة يرفض أنصاف الحلول في مهنة الصحافة، ولذلك فهو يؤكد أن من يريد امتهان الصحافة الحقة عليه ألا يفكر فيمن يحبه أو يكرهه إذا كان الهدف معالجة مشكلات المجتمع بعيداً عن الشخصنة». قال عنه أحمد بن محمد الأحمدي في كتابه (محطات .. في حياتهم): ((.. هو أول من أدخل على عالم الصحافة السعودية تجربة (الصحفي الخفي) حيث كانت بدايته مع استطلاعات تحوله إلى عامل نظافة لمدة يوم كامل استطاع من خلال ذلك معرفة أسرار وخفايا وسلبيات هؤلاء العمال، كما عمل مقشر أسماك في سوق السمك، والعديد من المواقف العجيبة والمثيرة .. لديه المقدرة على كشف المستور ..)).