الجمل بين عالمين!
منذ وصولي إلى أستراليا قبل عامين، بدأت -كأي قادم من العالم العربي- أسمع واقرأ نقاشات لم يخطر ببالي أن أسمعها بهذه الحدة. كلما قرأت خبراً عن الجمال هنا، أو شاهدت مقطعاً لبعض القطعان وهي تجوب الصحاري الأسترالية، ينتابني شعور يشبه الارتباك. هل يمكن فعلاً أن يكون هذا هو الحيوان نفسه الذي نحبه ونفخر به في السعودية والجزيرة العربية وشمال أفريقيا؟ الجمل الذي نشأنا على احترامه بوصفه جزءاً أساسياً من هويتنا وذاكرتنا، يُعامل هنا على اعتبار أنه يمثل تهديدا وعبء ثقيل يجب التخلص منه. وحتى هذه اللحظة، ما زلت عاجزاً عن استيعاب هذا التناقض. في الجزيرة العربية، يكاد لا يخلو بيت من قصة مع الجمال؛ إما عاشها أصحابه بأنفسهم أو سمعوها من كبار السن. أسواق الإبل، سباقات الهجن، مهرجانات المزاين، والمداولات اليومية حول السلالات والأسعار… كلها تشكّل صورة الجمل في وجداننا. بالنسبة لنا، الجمل ليس مجرد حيوان؛ إنه رفيق صحراء، وامتداد لتاريخ طويل، ورمز للكرامة والصبر والارتباط بالأرض. لكن ما إن وصلت إلى أستراليا، حتى وجدت الصورة مقلوبة تماماً. فالجمل هنا يُعامل كنوع غازي يتكاثر بسرعة غير متوقعة، ويستهلك المياه النادرة، ويضغط على النباتات الهشّة في البيئات الجافة. ولذلك تُدرجه الحكومة ضمن قائمة “الأنواع الغازية التي يجب السيطرة عليها”، إلى جانب الخنازير البرية والخيول والأرانب. والأسوأ أن برامج إدارة الحياة البرية تتضمن أحياناً عمليات واسعة لإعدام الجمال بالرصاص من طائرات الهليكوبتر، وهو مشهد يصعب على قادم من العالم العربي مثلي تقبّله حين يتذكر المكانة التي يحتلها الجمل في ثقافتنا. ورغم وجود محاولات اقتصادية للاستفادة من الجمال الأسترالية -من ألبان ولحوم ومنتجات مختلفة وتجارب سياحية- فإن هذه المبادرات تتحرك ببطء شديد. وتشير الدراسات إلى أنها غير قادرة على استيعاب النمو الطبيعي السريع للقطعان. فالقطاع الاستثماري هنا ما يزال هشاً وضعيفاً، وحتى لو تضاعف مرات عدة، فلن يكون قادراً على تحويل هذا الكم الهائل من الجمال إلى قيمة اقتصادية تُذكر، أو على تجنيبها الحملات المنظمة للحد من أعدادها. وهنا يظهر التباين بوضوح بين عالمين: الشرق الأوسط، وخاصة السعودية، حيث توجد صناعة راسخة للجمال تمتد لأسواق واسعة ومزارع متخصصة وسلالات أصيلة واستثمارات ضخمة بمليارات الدولارات؛ وفي المقابل، تقف أستراليا التي تمتلك ملايين الجمال، لكنها تفتقر إلى “صناعة الجمل” بالمعنى الحضاري والاقتصادي الذي نعرفه نحن. تأملت طويلاً في هذا الاختلاف. أدركت أن المسألة ليست في الحيوان ذاته، بل في البيئة التي يعيش فيها، وفي العلاقة التاريخية والثقافية التي تربط الناس به. فالظروف الجغرافية والبيئية قادرة على تغيير المعنى، وتحديد القيمة، وإعادة صياغة مكانة الأشياء في الوعي الجمعي. وبعد عامين في أستراليا، ما زلت أقف أمام هذه المفارقة بحيرة كبيرة: كيف يمكن لحيوان واحد أن يحمل صورتين متناقضتين إلى هذا الحد؟ هنا في أستراليا توجد الجمال بكثرة… وهناك في الجزيرة العربية وشمال أفريقيا توجد ذاكرة الجمال وصناعتها ومعناها العميق؛ معنى لا يُقاس بعدد القطعان، بل بما يمثله هذا الحيوان في روح المكان. * نيو ساوث ويلز، أستراليا