المهرجانات السينمائية: أسرار جودة الإبداع المستدام.

القوة الخفية للتصنيف (FIAPF) تُعد المهرجانات السينمائية الشرايين الأكثر تنظيماً ودقة ضمن الاقتصاد الإبداعي. إنها تخضع لعملية قياس مزدوجة: تبدأ بـ التقييم (Assessment) الذي يركز على الجانب الكمي/العددي لتحديد الوضع الراهن، يليه التقويم (Evaluation) الذي يضيف البعد النوعي/الكيفي لتحديد مسارات التطوير والإصلاح. يهدف هذا المقال إلى الغوص في آليات هاتين العمليتين، متجاوزين الإبهار السطحي للنجوم والبساط الأحمر. وأبرز هذه الآليات ما يلي: 1. صرامة التقييم الفني: معيار المصداقية والريادة يُعد الأثر الفني هو المعيار الأول لقياس الجودة، وهو يجمع بين المنهجين: * القياس الكمي: يمكن قياسه بعدد الجوائز الدولية اللاحقة التي تحصدها الأفلام التي بدأ عرضها من المهرجان (قياس عددي للأثر التراكمي). * التحديد النوعي: يظهر في آليات مهرجان كان كنموذج، حيث يُحدد مستوى المهرجان بمدى ثقل وخبرة أعضاء لجان التحكيم، ويتمثل في فرض معيار العرض العالمي الأول الذي يؤكد على مكانة المهرجان كمرجعية. 2. قياس الأثر الحضاري والرسالة: نموذج الشمولية والتأثير الاجتماعي تركز المهرجانات الكبرى على رسالتها الحضارية وتأثيرها على الحوار المجتمعي، ويُعد مهرجان برلين نموذجاً بارزاً: * القياس الكمي: يُقاس بعدد التظاهرات والندوات التعليمية التي يتم تنظيمها، وعدد المدارس والجامعات المستفيدة من العروض. * التحديد النوعي: يُحدد مستوى المهرجان بناءً على مدى قدرة الأفلام المختارة على تناول قضايا حقوق الإنسان، التنوع، والأقليات، وعلى نجاحه في تحقيق الشمولية. 3. قياس الأثر الاقتصادي وسوق الصناعة: حاضنات الأعمال السينمائية المهرجان السينمائي في جوهره هو سوق يولد القيمة، وتبرز هنا آليات واضحة: * القياس الكمي: يظهر في نماذج مثل البندقية وتورنتو، حيث يتم قياس نجاح المهرجان بعدد وحجم صفقات التوزيع والشراء التي تُعقد فيه، بالإضافة إلى حجم الإيرادات السياحية المباشرة التي يولدها للمدينة المضيفة. * التحديد النوعي: يُحدد مستوى المهرجان بمدى جودة وفعالية برامج دعم المشاريع قيد التطوير (مثل Venice Production Bridge)، وتحديد مدى نجاحه في بناء شبكات علاقات متينة تساهم في نمو الصناعة. النماذج العالمية الرائدة تُظهر النماذج العالمية الرائدة أن القياس في الساحة الدولية يتبع مسارات محددة ومتكاملة. فمهرجان كان يمثل قمة التحديد الفني عبر نزاهة لجان التحكيم ومعيار “العرض العالمي الأول”، مما يجعله سلطة نقدية عليا. في المقابل، يركز مهرجان برلين على الرسالة والتأثير الاجتماعي من خلال اختيار الأفلام التي تتناول قضايا التنوع وحقوق الإنسان. أما مهرجانات مثل البندقية وتورنتو، فيتم تحديد مستواها كـ محركات اقتصادية، حيث تُقاس كفاءتها بعدد وحجم صفقات التوزيع والتمويل المشترك التي تنشأ على هامشها. النماذج العربية الواعدة شهدت المهرجانات العربية تطوراً نوعياً في تطبيق معايير القياس العالمية، مع التركيز على دعم المواهب المحلية والإقليمية وربطها بالسوق الدولي. ومن أبرز هذه النماذج: * مهرجان القاهرة السينمائي الدولي (CIFF): يسعى لتأكيد مكانته العالمية بالالتزام بمعايير FIAPF في المسابقة الدولية، ويشدد على القيم الفنية الراقية والأفكار الجديدة. كما يقيم “أيام القاهرة لصناعة السينما” لدعم وتمويل المشاريع قيد التطوير. * المهرجان الدولي للفيلم بمراكش: يتميز بصرامته في اختيار لجان التحكيم العالمية التي يترأسها مخرجون حائزون على جوائز كبرى، ويكرس مسابقته الرسمية لاكتشاف “المواهب السينمائية الصاعدة”. * مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي: يركز على الدعم الاقتصادي والتمويل المباشر، حيث يقدم جوائز مالية نقدية، ويُعد “سوق البحر الأحمر” منصة حيوية لضخ الاستثمار في المشاريع قيد التطوير. إخفاقات في مسارات القياس: الدروس المستفادة لا تكتمل صورة الجودة المستدامة دون استعراض النماذج التي انحرفت عن معايير التقييم والتقويم السليمة، حيث تُعد هذه الإخفاقات بمثابة “مناطق حمراء” يجب تجنبها. * الإخفاق العالمي (التركيز الأحادي): تظهر حالات الفشل عندما تتبنى مهرجانات عريقة أو ناشئة معيارًا واحدًا على حساب المعايير الأخرى. فبعض المهرجانات تفشل عندما تركز بشكل مفرط على “الإبهار السطحي” وعدد النجوم الحاضرين (التقييم الكمي للزخم الإعلامي) وتتغاضى عن الصرامة الفنية (التحديد النوعي)، مما يؤدي إلى تراجع مصداقيتها على المدى الطويل كمرجع فني. كما أن المهرجانات التي تتحول إلى “سوق خام” للتمويل دون بناء برامج تقويم فني أو اجتماعي فاعل تفقد رسالتها الحضارية وتتحول إلى مجرد وسيط تجاري مؤقت. * الإخفاق العربي (نقص الشفافية والتبعية): تكمن أغلب إخفاقات المهرجانات العربية في غياب الشفافية التامة في آليات اختيار لجان التحكيم والأفلام، مما يفتح الباب أمام المحسوبية أو التأثيرات السياسية/ الشخصية التي تخالف معيار النزاهة الفنية الذي تفرضه (FIAPF). كما أن الاعتماد الكلي على التمويل الحكومي أو الرعاة الرئيسيين دون تنويع مصادر الدخل يضعف من استقلاليتها، ويجعلها عرضة للتغيرات السريعة في السياسات، مما يقوض قدرتها على تطبيق تقويم طويل الأمد ومستدام يضمن جودة الإبداع. المهرجان الذي يغيب عنه قياس الأثر المجتمعي الحقيقي ويتحول إلى مجرد احتفالية موسمية هو في الحقيقة مشروع تقويمي فاشل.تُظهر هذه الإخفاقات أن القوة الحقيقية للمهرجان تكمن في التوازن الصارم بين كافة محاور القياس: الفني، الحضاري، والاقتصادي، مع الالتزام المطلق بالشفافية كعمود فقري. المقياس الحقيقي هو الأثر المستدام إن عملية القياس للمهرجانات السينمائية تتطلب تحولاً جذرياً في النظرة: فبينما يحدد التقييم (Assessment) الوضع الراهن، يعمل التقويم (Evaluation) على تحديد مسارات التطوير والإصلاح لضمان جودة الإبداع المستدام. المهرجان العظيم ليس فقط ما يعرض أفلاماً عظيمة، بل هو الذي يفرض معياراً فنياً غير قابل للتنازل، ويكون قادراً على توليد صفقات اقتصادية، ويرفع من مستوى النقد والذائقة في محيطه. في النهاية، يبقى المعيار الذهبي هو الالتزام بالشفافية التامة، لتظل هذه المهرجانات حقاً نبض الإبداع وومض الجودة الحقيقي.