قراءة في رواية يوسف المحيميد (فخاخ الرائح)..

مرآة تعكس الذات المهمشة عبر رمزيّة المكان و دلالاته على الاغتراب بأنواعه وأزماته.

اللافت في أعمال يوسف المحيميد الروائية أنها ذات بنىً سردية مشحونة بالدهشة، تركّز على الذات المهمَّشة، والذاكرة، والجسد، والمكان عناصر تكوين الإنسان العربي المعاصربوصفه كائناً حيّاً يصارع من أجل الانعتاق من القيود اجتماعيةً كانت أو نفسيّة ، و يتحوّل الحيّ الشعبي، والمدينة، وغرف العزلة، إلى فضاءات رمزية للضيق، والخوف، والقمع، والحنين ذوات قلقة ممزقة مأزومة من الداخل ،محاصرة بذاكرة مثقلة بالفقد والحرمان ، تعيش الانكسار الاجتماعي والكينونة المسحوقة ،و يصوّر الشخصية عبر اختراق دواخلها ، لا سرد سلوكها الخارجي، والزمن لديه متشظٍ عبر السرد فهو يتّكيء على الاسترجاع بوصفه تقنية سردية؛ ولعل روايته (فخاخ الرائحة ) تمثل النموذج الأمثل لذلك كلّه ، ولهذا وقع اختياري لها في هذه القراءة. منذ البداية تتبدى لنا ملامح الأزمة التي يعيشها السارد في ارتباطها بمسآلة الاغتراب و بقضية الانتماء في بعده المكاني و عبر الهويّة الصغرى في بعدها الاجتماعي ؛ فالفضاء المكاني في الرواية يتشكّل في تصوره بوصفه مغترباًً نفسيّا رغم اندماجه فيه عملياً وتواصله من خلال تقلّبه في أعمال متعدّدة تكاثفت عبرها أزمة الاغتراب في ثنائية الاتصال و الانفصال و في مفارقة الانتماء والاغتراب (البدوي و الحضري) عقدة ثقافية سادت في مرحلة الانتقال بين مرحلتين من مراحل التطور الاجتماعي و التشكّل الطبقي الذي بدأ بظهور الطبقة المتوسطة بشرائحها المختلفة التي تبلورت في المجتمع المدني حديث الظهور . أما ما أحدثه هذا التحول في الجانب النفسي فيزيد المسألة تعقيدا والمفارقة وضوحاً ؛ فالثقافة الجديدة التي لازمت ظهور هذه الطبقة المتوسطة التي أثرت في البعد التداولي السائد من النقيض إلى النقيض ؛ فهذا الكائن المضهد لمظهره البدوي وما ناله من سخرية فاقمت الشعور بالاغتراب واستدعت مخزون الذاكرة من أساليب الاستهزاء بمظهره البدوي تتحول عبر سيادة النزعة البراجماتية في تبلورها عبر صياغة علاقات المصالح الاقتصادية لدى أبناء الطبقة المتوسطة، فظهرت الحدود بين الفئات الاجتماعية التي تشكّلت عبر البيئات الثلاث : البادية و الريف و المدينة في فضاءاتها المكانية. يستثمر الكاتب تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) في اللحظة المناسبة التي تستيقظ فيها ذاكرة بطله (طراد) مستعيداً بعض ملامح الطبقة الأرستقراطية التي هيمنت على المراكز الحساسة، واصطنعت بيروقراطيّتها الخاصة التي لا تقيم وزناً لمن هم دونها ، وذلك عبر تفاصيل العمل اليومي ومردوداته النفسيّة التي شكّلت الشعور بالاغتراب لديه، فجاس خلال الانحرافات السلوكية و التناقضات الاجتماعية لهذه الشريحة حديثة التكوين، وقد تميّز السرد في هذه الرواية بالنقلات المفاجئة بين مخزون الذاكرة وما يفور فيها من مشاعر غذّت نزعة الاغتراب لديه بما انطوت عليه من مواقف مهينة ، ولحظات ردّت إليه بعضاً من إحساسه بكرامته الإنسانية . يترك الكاتب العنان ل(طراد) كي يستعيد ذكرياته وما يدور في خلده من مشاعر متكاثفةً في بعدها النفسي العميق الأثر ، وقد تجلّى ذلك قي عدة مشاهد و مواقف وصفها بإتقان ، وكأنّه يصوّر لقطات سينمائية مُدبلجة أو مشاهد مسرحية دراميّة يقتنص فيها بعدسته اللاقطة أكثر اللحظات إحراجاً و المآزق سخرية ً ،ما يراكم الشعور بالمهانة التي تولّد الكراهية في نفس طراد وتعبر عن رهافة الشعور بالدونيّة بين الآخرين ،ويشحن ذلك بما يتّصف به من عوامل مركّب النّقص لفقده إحدى أذنيه مما ضاعف إحساسه بالاغتراب. لم يعن الكاتب بالشخصيات الثانوية العابرة كثيرا؛ ولكنه كان يتوقف عند بعضهم ملتقطا بعض ما يلائم هواجسه وشعوره بالاغتراب كبائع الشاورما التركي الذي تغزل بأذنيه و وجد فيهما ما افتقده من أذنٍ مقطوعة ، وما ذكّره بالفنان (فان خوخ) وما فعله بأذنه التي أهداها لمحبوبته ، و شبّهه به بعض الساخرين منه، ونقم منه غطرسته وتمنّى أن يرمي بأذنه الجميلة إلى القطط؛ ولكنه كان يعبّر عن بعض الشخصيات التي تعاطفت معه والتي شاركته السّرد، وهو ( العم توفيق) في مشاركته لسرديّته المريرة ، وقد نصحه ألا ينساق في ورطة مع الهازئين به الساخرين منه ؛ولكنه لم يصغ لنصائحه ، وقد تعاطف معه وعلّمه أصول المهنة ، وقد حرص الكاتب على وصفه من خلال ملامحه النفسية وصمته الحكيم ،وبدأ يدلي بتفاصيل تجربته الخاصة في موازاةٍ لقصة (طراد) منتقلا به إلى بيئة مكانيّة جديدة ، وتراتب اجتماعيٍّ آخر في تجمع بشري مغاير أقرب إلى الوحشية الدموية البدائية ، مجتمع تتسلّط فيه عصابات متوحّشة تتاجر بالبشر ومقدّراتهم كاشفاً عن أدنى الغرائز التي تتحكّم فيها شهوة الطعام وسطوة الحرمان متسلّحة بالرغبة في القتل والتنكيل بالضحايا، فيصف العم عبد الله الطريقة التي اقتيد فيها وعصابته من مكانٍ لآخر في السودان تحت إمرة( الجعليين ) وأضرابهم من الفئات المتسلّطة في السودان في تراتبات اجتماعية ذات طابع عرقي وقبلي وعنصري ، وعصابات تهريب المواشي عبر البحر سلاحهم في تجنّب الرقابة البحريّة وتجنيد رائحة روث البهائم التي ينفر منها المفتشون و المراقبين لتضليل المفتشين وصدّهم عن الاقتراب منهم ليبتعدوا عن حمولة السفن التي تحمل هذه البضاعة المهربة. ارتكز الكاتب في رؤيته للبيئة المكانية على تصوّر يخدم الموقف المحوري للمسألة الاجتماعية و ما انتاب بنيَتها من تحوّلات؛ فالرياض في الرواية ليست مجرد خلفية للأحداث ولا مجرد مسرح لها ، بل هي فضاء يفرض سلطته على الشخصيات، إذ يتحوّل المكان في الرواية من إطار خارجي إلى مرآة داخليّة تعكس التغيّرات النفسية والاجتماعية للشخصيات؛ فالأحياء الشعبية و الطرق الترابيّة والبيوت ذات الروائح المتراكمة تمثّل ذاكرة مكانيّة لا يمكن للشخصيات الفكاك منها؛ فالشوارع و محطة الباص و الغرف الضيقة، كلّها أماكن مغلقة تعكس الحس الاغترابي عند الشخصيّة الرئيسة الأولى (طراد) والقصر وهو مكان مغلق أيضا ذو دلالة طبقيّة تراتبيّة ضاغطة تغذّي الشعور ذاته ، والروائح - في ارتباطها بالمكان - تتحول إلى فخاخ تعتقل الشخصيات إلى ذاكرتها النفسيّة والاجتماعيّة ، وهي لفظة محوريّة في العتبة الأولى (العنوان الرئيس) وكذلك البيوت القديمة برائحتها ودهاليزها الضيّقة توميء إلى الارتباط بالجذور الاجتماعية و التكوين النفسي. أما فيما يتعلق بالشخصيات فهي تعاني من أزمات داخلية ، مشدودةً إلى الشعور بالمظلوميّة و مركّبات النقص ، من شأنها أن تغذّي الشعور بالاغتراب ثلاثي الأبعاد : مكانياً ونفسياً واجتماعياً . وتحضر المرأة في الرواية بوصفها كائناً هامشيّاً معطّل الفاعليّة ،وأحياناً بوصفها ضحية للعبث والاضطهاد رغم أن لها حضوراً كثيفاً بوصفها العلّة الرئيسة لما يعانيه محيطها من أزمات ، وأما الشخصيات من الرجال فلهم حضور مزدَوَج له بعد سلطويٌّ قاهر وآخر مأزوم و مقهور. و أمّا فيما يتعلق بجماليات السّرد فهو ينطوي على حبكة ذات أبعاد زمنية في متوالية زمنية : الوصف فيما يتعلق بالمكان بكل تفاصيله كما سبق أن أشرت والربط بين الرائحة بوصفها كميناً للاستحواذ على الشخصية و قهرها، كما في حالتَي طراد وصديقه السوداني ، والتركيز على جوانب القهر و الاضهاد في إطار الرؤية الاجتماعية الطبقية . وتأتي الحلقة الثانية في البناء السردي معزّزَة لدراما الصراع الداخلي للشخصيات والخارجي في محيطها وعلائقها وذكرياتها، في إيقاع يتّسم بالتدرج البطيء ، وينتهي في قاعدته الثلاثيّة إلى الفشل في الفكاك من الفخاخ المنصوبة على الرغم من المحاولات الحثيثة للفكاك منها ، الأمر الذي يوحي بالمعضلة الكامنة في أعماق الشخصيّات ورسوخ عقدة الدونيّة . وأما البؤرة السردية التي ينطلق منها الكاتب فهي الراوي العليم وحرصه على النفاذ إلى دواخل الشخصيّة ، أما التعامل مع الزمن فيتمثّل في تداول تقنية الاسترجاع والتوالي بين الماضي و الحاض والحاضر مما يعبر عن الاضطراب و التأزّم ،ولغة المحيميد تتّكيء على اللقطات التصويرية ، مما يجعل السرد بصرياً وحسّياً في آن؛ فقد استعمل الكاتب مفردات تتّصل بالصفات االملموسة عبر حاسّة الشم في الدرجة الأولى (مثل: العطن، الرطوبة، الدخان، الغبار) وبناء مشاهد بصرية – وأخرى شمّية تكثّف دلالات القلق والاختناق ، ويستخدم المحيميد تقنية اللقطات والمشاهد البانورامية للشوارع والبيوت، والانتقالات المفاجئة بينها . وتتعدّد الأصوات في الرواية ؛ فهي رواية بوليفونية وليست صوتاً واحداً مركزيّاً، بمعنى باختيني (نسبة إلى باختين) واضح ؛ فالكاتب لا يفرض الراوي رؤية أحاديّة؛ بل يفسح المجال لصوت المرأة،وصوت الماضي،وصوت المجتمع التقليدي، وأصوات الهامش الذين يختفون خلف الروائح والأماكن المتداعية، بما يسمح بتفاعل الأصوات وتناقضها ،وأقصد بالأصوات تلك التي لها خصائص الطبقة أو النوع أو الحرفة وما إلى ذلك: أصوات العامة في الأحياء الشعبية والخاصة في القصور والمثقفين والخائفين و المهمشين و الفقراء والنساء ؛ أما فيما يتعلق بتعدد اللغات فالمقصودبه الخطابات أي خصائص اللغة التي تمثل في مفرداتها وصياغاتها ودلالاتها الفصحى التي تشيع بين المثقفين ، واللغة الفورية البراجماتية المتداولة في المعاملات اليومية ، مما يعكس التراتب الاجتماعي وتعدد الرؤى و المواقف والتعبير عن الهوية والانتماء والقوى الأخرى ، وقد استثمر الكاتب لغة الجسد التي تمثل ما يدور في باطن الشخصية من تردد وخوف وانفعالات . وثمة الكثير مما يقال وما قيل حول اللغة وجماليات الرواية التي تحمل أهم خصائص المنهج الفني ليوسف المحيميد في أعماله السردية.