لقاءُ عالمين… من حدقةٍ إلى قلب.

ثمة لحظة لا تُقاس بالوقت، بل بالنبضة التي تتغير حين نلتقي بوجهٍ يشبهنا من حيث لا نتوقّع. لحظة امتدادٍ خفي… تمتد فيها يدٌ من عمق العين لا من ظاهر الجسد، كما لو أنّ الروح نفسها تمدّ أصابعها لتتحسّس ملامح الروح المقابلة. هذه اللحظة لا يخلقها الكلام، ولا يبنيها حضورٌ متكلّف؛ إنها تُولد حين تتجرّد النظرة من الأقنعة وتُبقي الإنسان عاريًا أمام ذاته أولًا، وأمام الآخر ثانيًا. نحن لا نُلامس الآخرين بأيدينا… بل نلامسهم بوعيٍ يفتح أبوابه قبل أن تُفتح الأذرع، وبذاكرةٍ تستجيب لما تُدركه العيون قبل أن تُدركه الحواس. فالعيون ليست نافذةً لما نرى، بل لما نهرب منه، لما فقدناه، ولما لا نعترف أننا نحتاجه. أكثر الروابط صدقًا تبدأ من مكانٍ لا تُدركه اللغة؛ من انتفاضةٍ خفيفة خلف الضلوع، من رعشةٍ لا يعرف مصدرها العقل، من انحناءةٍ طفيفة لصوت داخلي يقول: “هناك أحدٌ يفهمك… دون أن تطلب منه ذلك.” وفي المقابل، ثمة وجوهٌ تُكثِر من الكلام لأنها تخشى الفراغ الداخلي، وأخرى تصرخ بالتجمّل لأنها لا تملك عمقًا تتكئ عليه. لكنّ القبول — تلك الهالة التي لا تُشرح — لا تُصنع بالصوت، ولا تُفرض بالحضور، ولا تُستعار من قوائم التأثير. إنه شيءٌ يُعطى لمن نُقّيت سريرته قبل أن يُنقّى مظهره. الصورة التي نراها هنا ليست لقاء عينين… بل لقاء عالمين. عالمٌ يمدّ يده من بؤبؤه، وعالمٌ يفتح راحته من حدقةٍ تنتظر أن تُفهم قبل أن تُرى. إنها استعارة كبرى تقول إن البشر حين يلتقون حقًا، لا يلمسون الجلد… بل يلمسون الصدق الذي خُبّئ فيه. ما بين العين واليد، ما بين النظرة واللمسة، ثمة جسر لا يبنيه إلا الذين عرفوا سرّ القرب: أن تُصبح مرآةً لطمأنينة الآخر، لا عبئًا على روحه. وكلما تقدّم بنا الوعي، أدركنا أن أعمق العلاقات ليست تلك التي تُعلن نفسها للعالم، بل التي تحدث في الصمت…وتتكلم حين يغمض الطرفان أعينهما، ويعرف كلٌّ منهما أن الآخر يراه من مكانٍ لا يراه فيه أحد. ولذلك… ليس أجمل من أن تجد من تصل إليه دون أن تتحرك، ومن يفهمك دون أن تتحدث، ومن يعيد ترتيبك دون أن يلمسك. فهؤلاء هم الذين يمرّون في حياتنا لا ليلفتوا النظر… بل ليوقظوا ما كان نائمًا في داخلنا.