يتقدم مفهوم الشبح الأدبي داخل الحقول النقدية ككيان يتكون من طبقة لغوية تتجاوز حدود الإدراك المباشر، فهو عالم بطبقات متعددة تتحرك في منطقة تتداخل فيها الذاكرة , الصوت, والصورة , ينشأ هذا الكيان من أثر يتركه النص في الفجوة بين الاستحضار والعبارة السردية ، ويعمل كقوة خفية تعيد تشكيل العلاقة بين الراوي والزمن وبين القارئ والمشهد الداخلي. تتغذى الأشباح التي ترافق الراوي من كل نقطة يتقاطع فيها الشعور مع الحكاية، ومن كل لحظة يترك فيها الكاتب مسافة مفتوحة تنتج احتمالات جديدة وتوسع مجال القراءة , بنية الشبح تتشكل من مادة حسية تتداخل مع التجربة الذهنية فينشأ حضور يتردد في العمق الداخلي للفكرة ويقود اللغة نحو مستويات تمتد خلف الخطاب الظاهر , فعندما تتحرك هذه البنية داخل النص كأنها مجال يتسع مع كل إشارة رمزية، ويستقبل طاقة تنشأ من الجملة المتوترة و المموهة ، ومن اللمعة الصغيرة التي تمر في المشهد، و الذاكرة التي تعود عبر أثر مرتد بين الشكل وظله . و يتحول مفهوم الشبح في هذا السياق إلى مدخل نقدي يمنح القراءة قدرة على كشف الحركات الدقيقة داخل السرد، ويفتح الطريق نحو تحليل يتعامل مع النص كمنظومة تتكون من أصوات متعددة تتجاور داخل بناء واحد. يمتد هذا الحضور داخل العمل الأدبي حتى يتحول إلى طبقة تواصلية تشارك في تشكيل إدراك القارئ، تعمل على تعميق التجربة الجمالية من خلال أثر يتنامى فوق سطح اللغة ويتحرك في جذورها معاً, ومن هذا الامتداد تنشأ رؤية تسمح بدراسة الراوي وأشباحه عبر مستويات تتجاوز الوصف الخارجي، وتدخل في عمق البنية التي تنتج الأشباح الروائية من الذاكرة والخيال والإيقاع . حين نفصل ونشرح مفهوم التغدية الشبحية للراوي فهي تتجلى من محاور أساسية تعمل مثل قانون فكري خلاق غير مقيد لكنه مركز جداً , تتغذى الأشباح التي ترافق الراوي من كل نقطة يتقاطع فيها الشعور مع الحكاية، ومن لحظة يترك فيها الكاتب مسافة مفتوحة تنتج احتمالات جديدة , فهي بادئ ذي بدء تبدأ عملية التغذية من اللغة , حيث يستمد الشبح قوته من الإيقاع المتراكم داخل الجملة، ومن وزن المفردات وحركة الجملة من الداخل , و كل تكرار وصمت و انتقال من صورة إلى أخرى يولد طاقة تدفع هذا الكائن نحو النمو و تتحول اللغة إلى مجال ينبض بمستويات متعددة من الخلق الواعي فينشأ الراوي نظاماً يتحرك داخل النص ويتفاعل مع كل التفاتة سردية. وحين تتصل اللغة تتغذى الأشباح من الذاكرة المعرفية, تنشأ الذاكرة في هذا السياق كحقل واسع يمد الراوي بإشارات مستمرة و بعض هذه الإشارات يأتي من تجربة الكاتب، والبعض الأخر يأتي من خبرات القارئ فتتشكل داخل النص نفسه , فتتجمع هذه الإشارات في نقطة تأسيسية تتفرع منها أصوات جديدة يتولد منها شبح قادر على حمل التجربة من الداخل ورفعها إلى مستوى تأويلي يتجاوز اللحظة المباشرة. ومن ثم تتغذى الأشباح من تفاصيل العالم الروائي, حين يتولد الشبح من حركة الضوء داخل المشهد، ومن شكل الغرفة، ومن خطوات الشخصية، ومن الوجوه التي مرت سريعا ثم اختفت , تتجمع هذه العناصر في ذهن الراوي فتنتج مشهداً داخلياً أكثر اتساعاً من المشهد الخارجي , و يتحول هذا التوسع إلى طاقة معرفية تمنح النص قدرة على إنتاج مستويات سردية متعددة تتحرك في اتجاهات متوازية. فعندها يستمد الراوي طاقته من الظلال التي يرسمها الشبح حول الحدث, تنشأ هذه الظلال من روابط دقيقة بين الشعور الفردي والبيئة السردية,و يتكون من خلالها مجال يسمح لأشباح الراوي بالعمل كمنظومة معرفية واسعة , تتجه هذه المنظومة نحو تحويل السرد إلى مشهد ذهني يتداخل فيه الزمان والمكان والحالة النفسية ويتحول الشبح إلى بنية تراقب الشخصيات من داخل نفسها وتفسر العالم من زوايا متغيرة، فتنتج قراءة مركبة تتجاوز الحدث وتعيد تشكيله مرة بعد أخرى. القارئ جزء مساهم ضخم في توليد الشبح للراوي , تساهم علاقة القارئ بالنص في تغذية هذه الأشباح, يتشكل الشبح داخل ذهن القارئ حين يواجه مشهداً مشعاً في وجوديته أو جملة مشبعة بطاقة شعورية عالية , فيتفاعل القارئ مع النص وينشأ مجال جديد يضيف للراوي طبقة إضافية,تتشكل هذه الطبقة من التأمل الشخصي، ومن الذكريات التي يستدعيها القارئ ومن خبرات بعيدة تستيقظ عند القراءة, منها يتحول هذا التفاعل إلى محرك يعمق حضور الراوي ويرفع النص إلى مستوى نقدي واسع. تغتني أشباح الراوي من طبيعة السرد نفسه حين ينفتح السرد على حركة داخلية عميقة، لتنشأ داخل الجملة مسارات صغيرة تتفرع من بعضها , هذه المسارات تتجه نحو بناء رؤية تتجاوز حدود الحكاية وينتج عنها وعي سردي يملك القدرة على تحليل التجربة الإنسانية من خلال تراكب المحاور المساهمة والملهمة , وكل طبقة تضيف للراوي قوة جديدة وتجعله كائناَ قادرا على التحول والتجدد. تتكاثر أشباح الراوي في النصوص التي اتسعت فيها اللغة كإشارات تبين الرواية والشعر والسينما ، وتتقدم هذه الإشارات في أعمال دوستويفسكي حين يتحرك (راسكولنيكوف ) داخل صوته المجهد ويترك في كل خطوة أثراً يولد شبحا يتابع اضطرابه، ثم تنتقل هذه الحركة إلى عالم فرجينيا وولف حيث يعلو صوت ساعة بيق بن فوق المدينة ويقود التجسد نحو مسافة تتجمع فيها تداعيات (كلاريسا وسيبتيموس ) ، وتتوسع الأشباح في القرية البعيدة عند ماركيز. حين يتكرر الاسم ويتحول الزمن إلى دائرة تخلق ظلالًا جديدة أمام كل جيل من عائلة بوينديا، ثم تنشأ طبقة أخرى في القاهرة القديمة عند نجيب محفوظ عندما تتردد خطوات السيد أحمد عبدالجواد داخل البيت فيرتفع من صمت الأزقة شبح يتابع العائلة ويضيء المناطق الخفية في علاقتها بالعالم، الأشباح تشكل خريطتها وتتحرك نحو شمال السودان عند الطيب صالح حين تخرج من غرفة مصطفى سعيد وثقل كتبه وتنفتح على التجرد المزدوج الذي يتقدم داخل رأس الراوي، لم يخل الشعر من اشباحه الروائية , فالشعر يتغذى الشبح من لمعان الفرس عند امرؤ القيس ومن الإيقاع المشدود عند المتنبي ومن صورة الضوء الحزين في دفاتر ريلكه ومن طريق المنفى الذي يتردد في قصائد محمود درويش، ويستمر الامتداد في السينما الشعرية الروائية حين تنشأ الأشباح من زاوية الكاميرا عند بيرغمان ومن بطء الزمن عند تاركوفسكي ومن تداخل الصوت مع الصورة عند نولان ومن حدة الجسد عند مارلون براندو، وتعمل هذه الأمثلة على تشكيل مجال واحد يتغذى من الطاقة التي تجمع الذاكرة بالصوت والمشهد والخيال، فيتسع حضور الشبح ويكتسب قوة تتيح للراوي أن يتحول إلى كائن يتحرك بين الأجناس كلها، ويعيد ترتيب العلاقة بين الفكر واللغة والمشهد، ويمنح النص قدرة على إنتاج مستويات جديدة بين الحركة والصمت والشعور . يشكل هذا الاتجاه نقطة أساسية في النقد الحديث،تتجه الدراسات الحديثة نحو اعتبار الشبح الأدبي مستوى معرفي مستقل يعمل داخل النص ويعيد تشكيل العلاقة بين القارئ والراوي، ويتقدم هذا الاتجاه في النظريات التي تدرس الصوت الداخلي والطبقة المتخفية، يتعامل مع الشبح كأثر يتكون من تراكمات لغوية تنشأ داخل الفجوات وتتحرك في المساحات التي تتركها الجملة، وتتوسع هذه الرؤية في النقد السردي المعاصر من خلال التركيز على البنية التي تنتج الأصوات المتجاورة، وتمنح النص قدرة على بناء تشكيل متعدد يعمل ضمن مجموعة من المسارات التي تخلق من الذاكرة والرمز والإيقاع، يعتمد هذا المنظور على قراءة تتعامل مع الراوي على انه نقطة مركزية يتسع مع حركة المشهد ويتحول إلى شبكة من الطاقات التي تدفع السرد نحو عمق يتجاوز الخطاب المباشر، ويتقدم هذا الطرح في تحليلات السيميائيات والأنثروبولوجيا الأدبية وعلم النفس النقدي، الذي يتحول الشبح فيه إلى هيكل تأويلي يسمح بفهم العلاقة بين اللغة والوعي الروائي ، ويكشف الطبقات التي تنتجها التجربة الشعورية داخل النص فينتقل الشبح من كونه أثراً بسيطاً إلى كونه محركاً للوجودية المخلوفة . وجود هذه الأشباح يشير إلى قدرة النص على بناء وعي سردي مستقل عن المؤلف، ويتحول الراوي عندها إلى كائن ينمو من تلقاء ذاته,يعتمد هذا النمو على تغذية مستمرة من الرموز، وتراكم الإيقاع، وتشكيل المساحة العميقة التي يعمل فيها النص كحقل معرفي واسع يتجاوز الحدث ويسمح للراوي بأن يتحرك ككيان حي داخل العمل الأدبي. تستمر عملية التغذية مع كل قراءة جديدة يكتسب الراوي حياة ممتدة تتشكل من إعادة التأويل، ومن الطاقة الشعورية التي يرسلها القارئ نحو العمل، ومن الإضافات التي يخلقها الخيال أثناء مواجهة النص , فتتحول هذه الحيوية الشبحية إلى جزء من بنية الأدب الحديث، وتصبح أشباح الراوي عنصرا أساسيا في تحليل العلاقة بين اللغة والإستحضار والحركة الوجوية بأشكالها المختلفة. *كاتبة ومترجمة. الرياض