عبدالفتاح كيليطو:

عينٌ على التراث بعدسةٍ معاصرة.

في مشهد النقد العربي اليوم، يتقدّم المغربي عبدالفتاح كيليطو (1945–) بصفته واحدًا من قلائل حوّلوا التراث من «أثر» يُعرض في المتاحف إلى «أفق» يُعاد فتحه للقراءة. لم يكتفِ باستعادة الماضي، بل أعاد تركيب علاقته بالحاضر، فأزاح سوء الفهم الذي طال النصوص القديمة، واقترح لها لغتها الثانية: لغة قارئ معاصر لا يساوم على الدقّة، ولا يتنازل عن لذّة الاكتشاف. مسارٌ يتخطّى القطيعة على الرغم من تكوينه الأكاديمي في الأدب الفرنسي، انجذب كيليطو إلى العربية الكلاسيكية بوصفها مرآةً لوحدة القراءة عبر الأزمنة. يروي في أحد حواراته أنّ «قطيعة» حدثت بين الأدب العربي القديم والحديث، وأن قراءته للتراث كانت «صدمةً إيجابية» كشفت له عالمًا مجاورًا ومجهولًا في آن. تلك الشرارة أطلقت مشروع صاحب «العين والإبرة»: إعادة اكتشاف نصوصنا العتيقة وإعادة تقديمها خارج الصور النمطية والأحكام المعلّبة، بوصفها مختبرًا للأسئلة لا مخزنًا للشواهد. بين لغتين… وعالمين يقف مؤلف «الكتابة والتناسخ» عند تقاطع خبرتين: عُدّة نقدية غربية صقلتها الفرنسية، ومعرفة دقيقة بالموروث العربي. هذا التموضع الهجين لا يخلخل الهوية، بل يوسّعها. لذا بدا عنوان كتابه الذي ترجمه عبدالسلام بنعبد العالي «أتكلم جميع اللغات، لكن بالعربية» تلخيصًا لسؤالٍ جوهري: كيف يُصغي المثقف العربي إلى الآخر من دون أن يبدّد صوته؟ وكيف يعود إلى تراثه من نافذة الحوار لا من متراس المفاصلة؟ في مقالاته تتجاور أمثلة من الجاحظ وابن حزم مع كافكا ورولان بارت في الصفحة نفسها، ليبرهن أن النصوص الكبرى لا تعترف بحدود الجغرافيا ولا بحُرّاس الأجناس. قراءةٌ جديدة للنص القديم لا يقف صاحب «لسان آدم» و*«الأدب والغرابة»* عند ظاهر النص. إنه يغوص إلى طبقاته الصامتة، فيُسمِع ما خَفَت. كتب عن الجاحظ، وابن حزم، والأصفهاني، وأبي حيّان التوحيدي، والمعرّي، وابن رشد، بالعمق نفسه الذي قارب به نيتشه وكافكا وسارتر وفولتير وسان جون بيرس. في «العين والإبرة» يعيد قراءة «ألف ليلة وليلة» خارج القوالب الاستشراقية، كاشفًا ديناميات الحكي وطرائق التلقّي، ومبيّنًا كيف ينتج النص قارئه مثلما ينتج القارئ نصَّه. وفي «الأدب والغرابة»—كما لاحظ عبدالكبير الخطيبي—يمارس نقده بـ«مكرٍ نادر»، مستفيدًا من مناهج حديثة من غير أن يدعها تتسيّد على النص أو تُخضِعه لقوالب جاهزة. كتابةٌ تتخفّف من الاستعراض ما يميّز كيليطو ليس الموضوعات فحسب، بل الكيفية. يناقش المثاقفة والترجمة والسردية والشعرية بعبارات شفيفة، متحرّرًا من حُمّى الاصطلاح. وقد أحال مرّةً إلى مقولة ديدرو: «أنا لا أكتب كتبًا، بل صفحات»؛ أي إنه يبدأ من شرارات وأسئلة تتبلور لاحقًا في كتاب، حيث تتجاور المقالة والهوامش والحكاية النظرية في نسقٍ واحد. تُرى في أسلوبه جملٌ محكمة، واستعارات قليلة ولكن فاعلة، وميلٌ إلى السؤال لا إلى الخاتمة المطمئنة؛ لذلك يخرج قارئه وفي يده مفاتيح لا وصفات، وفي ذهنه احتمالات لا أحكام نهائية. الترجمة امتحانٌ للغة الأم لا يتعامل كيليطو مع الترجمة كقناة عبور فقط، بل كاختبارٍ لقدرة العربية على توسيع مداركها. فالترجمة عنده تفكّر في اللغة وهي تعمل: تُخطئ وتُصيب، وتولّد مكافئًا دلاليًا لا نسخةً مطابقة. ومن هنا تتجاور لديه معرفة البلاغة القديمة بفنون السرد الحديثة؛ فتغدو «المقامات» أختًا بعيدة للرواية، ويغدو «كتاب الأغاني» أرشيفًا حيًا للحكاية والأداء، لا مجرّد موسوعة. أثرٌ يتجاوز الرف لا يُقاس مشروع كيليطو بعدد كتبه وحده، بل بالأثر الذي تركه في أجيال من القرّاء والباحثين. صار كثيرون يقتربون من النصوص الأولى بثقةٍ أكبر وإحساس نقدي أعلى: من رسائل إخوان الصفا إلى شعر المعرّي، ومن «البيان والتبيين» إلى شذرات المتصوّفة. أسهمت قراءاته في تحديث طرائق تدريس الأدب العربي، إذ دفعت إلى التعامل مع النصوص بوصفها حقولًا للتأويل، وإلى تحويل الهامش إلى ساحة حوار، لا متراس حواشٍ يصدّ القارئ عن المتن. مصالحة بلا قداسةٍ ولا قطيعة يتعامل كيليطو مع التراث كنصّ حيّ: لا يُؤلَّه ولا يُستبعَد. إنّه يدعونا إلى قراءته بعيون اليوم—عيونٍ تفكّك وتستمتع معًا—متجاوزًا ثنائيات قديم/حديث، شرق/غرب، أصالة/معاصرة. يقدم مثالًا لقراءةٍ عادلة تُنصف الماضي من دون أن تجمد فيه، وتختبر الحاضر من دون أن تستسلم لسلطته. بهذه الروح يتبدّى التراث لا كواجهة حجرية، بل كورشة مفتوحة تتبدّل بتبدّل قارئها، ويغدو سؤال الهوية جزءًا من دينامية المعنى لا سوره. تكريم يليق بالمشروع حين منحت جائزة الملك فيصل كيليطو عام 2023 فرع اللغة العربية والأدب موضوع «السرد العربي القديم والنظريات الحديثة»، بدا التكريم امتدادًا طبيعيًا لمسارٍ أعاد صوغ علاقتنا بالموروث. لم يكن الأمر احتفاءً بإنجاز فردي فحسب، بل إشارةً إلى قيمة القراءة التي تُعيد إلى التراث وظيفته الحيوية: أن يكون مرجعًا للتفكير لا متحفًا للعرض. كما ذكّرنا بأن المشروع لا يكتمل بخاتمة؛ فكل جيل محتاجٌ إلى أن يعيد قراءة أرشيفه بنظرٍ جديد، وأن يضع أسئلته في قلب النص لا على هامشه. القريب الذي نظنّه بعيدًا يلخّص كيليطو روحه بشذرةٍ جعلها عنوانًا لأحد كتبه من يوميات كافكا: «من نبحث عنه بعيدًا يقطن قربنا». ما نفتّش عنه من ثراءٍ وعمقٍ قد يقيم في نصوصنا الأولى؛ كلّ ما نحتاجه عدسةٌ معاصرة تعيد إضاءتها. من «من شرفة ابن رشد» إلى اليوم، ظلّ كيليطو يسلّمنا مفاتيح الدخول: لغة دقيقة، حسّ سردي يقظ، وشغفٌ لا يكلّ بالسؤال. هكذا تُردم الهوّة بين الماضي والحاضر، وبين الذات والآخر؛ لا بالشعار، بل بفعل القراءة التي تُصغي وتُحاور وتبتكر سُبلًا جديدة ليواصل التراث كلامه بالعربية المعاصرة