نكتب إليك بمحبة أبنائك وشركائك في هذه المسيرة العريقة.

في اللحظات التي يختبر فيها المرء هشاشة الجسد، تتبدّى قوّة الروح، وتظهر حقيقة الأثر الذي يتركه الإنسان في من حوله. ولأنّ الحديث عن الدكتور سعيد السريحي يشبه الكتابة على صفحة ماء؛ رقّة لا تُمسّ وعمق لا يُدرَك، ومقامٌ لا يرقى إليه إلا ذو حظٍّ عظيم، فإنّ الكلمات مهما ازدانت، تظلّ أقلَّ من أن تصف هالته، أو تحتضن فعله الثقافيّ الكبير في الذائقة العربيّة. عرفتُ الدكتور سعيد السريحي قبل أن أعرفه شخصيًّا؛ عرفته في لغته قبل صورته، وفي فكره قبل صوته. كان من أولئك الذين يضيئون الطريق من دون أن يتقدّموا الصفوف طلبًا للضوء، يسير بمهابةٍ وتواضع، حاملًا صدق رؤاه ومقاصده الشريفة. كتاباته كانت دائمًا تفتح نافذةً على جمال اللغة حين تتسامى، وعلى جدل الفكر حين يرتقي، وعلى سكينة المثقّف حين يختار الحكمة مسكنًا ودربًا. وقد حظينا في دار “مدارك” بعلاقة خاصّة مع الدكتور السريحي، لم تكن مجرّد علاقة ناشر بمؤلف، بل علاقة صداقة معرفيّة، ومحبّة مهنيّة، وشراكة ثقافيّة نعتزّ بها. فقد احتضنت الدار أغلب كتبه، لكنّه هو من احتضن قيمتها، ومن منحها شرف أن تحمل اسمه قبل أن تحمل عنوانها. كلّ إصدار يمرّ بين يديه كان يتحوّل إلى حوار داخليّ بين اللغة وذاتها، بين السؤال وإمكاناته، وبين الثقافة ومسؤوليّتها. وفي مشهد ثقافيّ عربي يحتاج إلى من يصون ذائقته ويهذّب مساره، لعب الدكتور السريحي دورًا لا يُمحى. كان صوته هادئًا، لكنّه عميقُ الأثر. وكان حضوره متواضعًا، لكنّه وافر العطاء. حين يعتلي المنبر، كان يخطف الأسماع والأبصار، وإذا ما تكلّم، انساب من شفتيه تأريخٌ كامل ومعارف لا تتأتّى إلا لحصيف متمكّن وعارفٍ مطّلع. وفي زمن تميل فيه الخطابات إلى الضجيج، بقي هو يؤمن بأنّ الرأي بالرأي، والحجّة بالحجّة وأنّ الفكر لا يرفع صوته، بل يرفع قيمته. أمّا على المستوى الإنسانيّ، فكان الدكتور السريحي دائمًا قريبًا، متفضّلًا، كريمًا في محبّته، وصادقًا في اهتمامه. لم يكن يتعامل معنا في “مدارك” كمؤسّسة، بل كبيت ثقافيّ، يزرع فيه بذور الفكر والحكمة والتأمّلات الفكريّة ويفتح فيه جسرًا للعبور الإنسانيّ والأخلاقيّ والفكريّ مع الآخر. وكان يحيطنا بنبلٍ يشبهه، وطمأنينة لا يملكها إلا الكبار، وسكينة ظلّت ترافقه، وابتسامةٍ لا تفارقه. وفي هذا الظرف الصحي الذي يمرّ به، ندعو الله أن يتلطّف به، ويهب قلبه قوّةً تليق بقلبٍ حمل الثقافة العربية سنين طويلة بمحبة نادرة ووعي عميق. نكتب إليه اليوم لا بصفةٍ مهنيّة، بل بمحبة أبنائه وتلاميذه وشركائه في هذه المسيرة العريقة. نكتب إليه ليعرف أنّه فينا، وأنّ حضوره ثابت مهما غاب، وأنّ أثره ممتدّ مهما ابتعد. يا أبا إقبال... نسأل الله لك عافيةً تعود بها إلى قرّائك ومحبّيك، وإلى دارك التي اشتاقت حروفها إلى قلمك. ولتعد كما عرفناك: ثابتًا في رؤيتك، رحيمًا في إنسانيّتك، فارقًا في أثرك. ولينعم قلبك بعافية تُشبِه نقاءك، وتليق برجلٍ حمل الثقافة بيدٍ، والحكمة بالأخرى، ومضى بينهما بطمأنينة الذين يعرفون قيمة ما يفعلون. تقبّل منّا قلوبنا التي تفيض محبّة وتقديرًا، *مدير عام دار مدارك للنشر