عند النظر لأفلام المسابقة الرسمية لهذا العام في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، حتماً ستجد أعمالاً مهمة وبارزة، وسيلفت نظرك أحدها وتجد نفسك منجذباً إليه، ربما لأسباب بسيطه كملصقه الإعلاني أو لأي سبب آخر. ولكن، قد يختطف انتباهك فيلم مختلف تماماً عما هو سائد في المسابقة؛ هذا الفيلم هو «الله ليس ملزماً» للمخرج زافين النجار. عندما تتجاوز الوهلة الأولى وتتناسى أنه فيلم رسوم متحركة لتقرأ قصته ثم تعود لتتخيل المعالجة السينمائية المناسبة لهذا الموضوع الثقيل، أكاد أجزم أنك ستضع خمسة احتمالات، بل سأسهل عليك الأمر وأقول عشرة خيارات لأسلوب الطرح، ولن تكون «الرسوم المتحركة» واحدة منها. من هذه المفارقة نبع اهتمامي الأولي الذي شدني ليكون هذا العمل هو فيلمي الأول الذي أشاهده ضمن أفلام المسابقة. وعود كبيرة ومعالجة جريئة إضافة إلى تحدي الموضوع والأسلوب الذي اختاره المخرج والكاتب زافين النجار وهو اقتباس لرواية بنفس الأسم لأحمدو كوروما فقد اختار للفيلم بداية صادمة وربما مربكة. هذا الأسلوب، وإن لم يكن غريباً أو جديداً كلياً، إلا أنه عادة ما يستخدم في أنواع سينمائية مغايرة، وهو أن تجعل المشهد الافتتاحي هو ذروة فيلمك، ليس مجرد ذروة، بل نهايته كأن يموت بطل قصتك ونعود من بعد الافتتاحية لماضي القصة. هذا التكتيك السردي يجعلك مشدوداً للفيلم، لكنه يرفع سقف التوقعات إلى مرحلة قد لا يتماشى معها الفيلم لاحقاً، مما قد يصيب المشاهد بإحباط كان يمكن تفاديه. يبدأ الفيلم مع بطلنا (براهيما) عندما تفارقه أمه لحظة وفاتها وهو بين ذراعيها، ليأخذه الدجال (ياكوبا) في رحلة هدفها إيصاله لعمته التي تسكن في قرية أخرى ليست ببعيدة جغرافياً، لكن المسافة في ليبيريا ليست هي المعضلة الأهم في ظل اشتعال الحرب الأهلية بين عدة أطراف وتوجهات، حيث يحكم الصراع اختلافات متنوعة بين الأيديولوجيا وصراع المناطق. ورغم ذلك، نظل ملتزمين بالفكرة الأهم في ظل هذا الصراع: تتبع بطلنا براهيما وهو يحاول أن يجد منفذاً يصلح حاله. في البداية، ظل براهيما مقتنعاً بأن خلاصه يكمن في أن يصبح جندياً محارباً لمصالح كبرى لا تعنيه، من أجل أن يجد انتباهاً طفولياً له بين أصحابه وبين من هم أعلى منه سلطة. ومن هنا يخلق الفيلم أولى المعضلات التي نتتبعها، وهي ارتباط الطفل بشيء يفوق تصوره في استغلال وقح وجشع لبراءته. وفي استعارة عبقرية قالها براهيما وكثيرة هي الاستعارات العميقة في الفيلم التي أتمنى لو سنحت لي الفرصة لرصد المزيد منها يصف المشهد قائلاً: استعمال السلاح سهل جداً، فقط تضغط على الزناد لتسمع صوته ، وخلال رحلته في حمل هذا السلاح، أجد أن الفيلم فعلاً في نهايته قد التزم بكل وعوده وخلق لنا تجربة مبهرة رغم كل التحديات التي وضعها لنفسه. أزمة أفلام الحرب هناك دائماً معضلة وخيار مفصلي عند صنع فيلم يتناول الحروب إما أن تقدم فيلم أكشن سطحي يتعامل مع المشاهد الذي يطلب إثارة حركية مجردة والأمثلة على ذلك كثيرة وإما أن تقدم فيلماً مؤثرا يلتقط كيف لهذه الويلات والأزمات أن تضع بصمتها على الناس والجغرافيا، ويمتد أثرها لأجيال لم تحضر الحرب بالضرورة لكنها تضررت منها، فيخلق الصانع حالة من التعاطف والتقارب الشعوري بين المشاهد وشخصياته. وهنا يأخذ الفيلم ذلك إلى حد أبعد من هذين المستويين بفضل طبيعة الوسيط الذي اختاره لسرد القصة (الرسوم المتجركة) فهو ليس فيلم حركة تقليدي ولا هو مجرد فيلم تخرج منه متأثراً بشدة وحسب؛ فعلى الرغم من أن معالجته كانت سوداوية وجادة حاولت تصوير الأزمة كما يجب، إلا أن للرسوم المتحركة حساً خلاقاً يستطيع أن يجعل من حدة العنف داخل القصة خيطاً ناظماً للقضايا الكثيرة في الفيلم. بمعنى أنك سوف تكون مراقباً لرحلة الطفل براهيما التي يعتصر قلبك ألماً لها، لكن في المقابل لن يكون الشعور بالحزن طاغياً لدرجة أن تنسى بقية الأحداث وتصبح هامشية، ليخلق حالة من التوازن تستطيع من خلالها أن ترصد موضوعات الفيلم وتكون حيالها تصورك للسياق الاجتماعي والأقتصادي وغيرها لهذه الموضوعات، ومن هنا كان اختيار هذا الوسيط ذكياً للغاية.