الذاكرة الثقافية الرقمية: بين الخلود والضياع في زمن النقرات.
في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، حيث تتسابق التقنية مع الزمن، لم تعد الذاكرة الثقافية حبيسة الكتب أو محفوظة على أرفف الأرشيفات، بل باتت بنقرة زر متاحة للجميع، أصبحت جزءًا من فضاء إلكتروني واسع، تتشابك فيه الخوارزميات مع الوجدان والعواطف، فظهر مفهوم “الذاكرة الثقافية الرقمية”، كأحد أبرز مظاهر العصر الحديث، وأعاد تشكيل علاقتنا بالتراث والماضي والهوية. والسؤال هنا ما أثر هذا التحول على الذاكرة الثقافية؟ “الذاكرة الثقافية” هي المخزون الجماعي من القيم والرموز والمعارف الذي يحفظ هوية المجتمع وتاريخه. وإذا كانت البشرية لقرون طويلة قد اعتمدت الوسائط المادية، من ألواح الطين إلى المخطوطات، فإنها اليوم تنتج ذاكرة رقمية عبر وسائل التواصل، والأرشيفات الإلكترونية، والمبادرات الرقمية التي تتبناها المؤسسات الثقافية والتعليمية. في السعودية، نلمس حراكًا نوعيًا في هذا المجال، من خلال “الذاكرة الرقمية السعودية” ومبادرات وزارة الثقافة وهيئة التراث، لحفظ الصور والمرويات والمحتوى الثقافي بأشكاله المتعددة. الذاكرة الرقمية ليست مجرد أرشفة، بل هي عملية تفاعلية تشترك فيها التقنية والمجتمع والفرد بشكل يومي. هي ساحة صراع بين الهوية والمعلوماتية، بين التوثيق والحذف، بين صوت الأفراد وصوت المؤسسات. فمن خلال صورة أو مقطع فيديو أو تغريدة، قد تُصاغ لحظة ثقافية وتُختزن في “اللاوعي الرقمي الجمعي”. وهكذا أصبح الفرد شريكًا في صياغة التاريخ، لا مجرد متلقٍ له، عبر استحضار الشخصيات المنسية، وتوثيق الحياة اليومية بأدق تفاصيلها. وقد عبّر المفكر بيير نورا عن هذا التحول بقوله: “لم نعد نحيا في ذاكرة، بل في مواقع ذاكرة، لأن الذاكرة أصبحت عملاً واعيًا، لا شعورًا تلقائيًا”. وكما قال نيتشه: “المرء لا يستطيع أن يعيش دون نسيان، لكنه لا يملك هوية دون ذاكرة.” لكن رغم الإيجابيات، تواجه الذاكرة الثقافية الرقمية تحديات، منها: قابلية الضياع بسبب تغير الصيغ أو تعطل الخوادم، التزييف السهل، الهيمنة الثقافية الرقمية للغات محددة، وقضايا الخصوصية وحقوق النشر. وهنا يطرح سؤالٌ جوهري: ما الذي يجب أن يُنسى؟ وما الذي ينبغي أن يُروى؟ هذا الوعي بحاجة الى تأطير، وتعليم، ودعم. فالتعامل مع الذاكرة الرقمية يجب أن يُغرس منذ مراحل التعليم المبكر، عبر فهم أدوات التوثيق، وأخلاقيات النشر، وآليات التحقق من المعلومات. كما يجب أن تمنح المساحات الرقمية العربية منصات حرة وآمنة لترويج الثقافة، لا فقط استهلاكها. فالذاكرة ليست ما نحتفظ به من ملفات، بل ما نختار أن نرويه ونمرره للأجيال. والذاكرة الرقمية، بكل ما تحمله من إمكانات، تمنحنا فرصة تاريخية لصوغ هوية متجددة، لا تنفصل عن جذورها، ولا تذوب في فوضى العصر. فهل نحسن استثمار هذه الفرصة؟