حجة التحيّز.

غالبًا ما يتحدث الناس عن التحيز وكأنه بطبيعته سيئ أو إشكالي من منظور منطقي، وأن من واجب المنطق غير الصوري القضاء عليه في الحِجَاج. يشير هذا النوع من المعايير عادة إلى «الموضوعية» أو «الحياد». لكن التحيز لا يُعد مرادفًا لغياب الموضوعية أو الحياد. فالحياد يعني تعليق الالتزام، وعدم تبني المرء لحجة أي من الطرفين. أما الموضوعية فتشير إلى الابتعاد عن دعم أي من الطرفين اللذين نشأ بينهما الخلاف في الرأي، بحيث يستبعد المرء وجهة نظره الشخصية تمامًا. أما الإنصاف فيعني اتخاذ موقف غير منحاز لأي من الجانبين. ويبدو أن التحيز (أو على الأقل تصوراتنا لقبوله أو رفضه) يعتمد على الغرض المعلن أو المفترض للخطاب. يشارك عبدالعزيز وهمام في مناظرة حول مدى خطورة استخدام الذكاء الاصطناعي في جمع البيانات الشخصية.يؤكد عبد العزيز مطولًا أن المخاوف المنتشرة في الإعلام مبالغ فيها، وأن نظم الذكاء الاصطناعي لا تشكل خطرًا حقيقيًا على خصوصية المستخدمين إذا استُخدمت بشكل صحيح. وبعد أن عرض سلسلة من الحجج التقنية والقانونية لدعم رأيه، يقاطعه همام قائلاً:علينا أن نتذكر أن عبدالعزيز يعمل مستشارا في شركة تقنية كبرى تعتمد على جمع البيانات، لذا لا ينبغي أن نأخذ كلامه بجدية. الاختلاف أمر طبيعي في المناقشة النقدية، لأنه من المقبول أن يكون المرء مدافعًا عن وجهة نظره الخاصة، إلا أن الجانب السلبي يكمن في ردة فعله تجاه موقف الطرف الآخر ونقده وعدم انفتاحه على الأدلة الجديدة أو الشكوك النقديّة في الممارسة الحواريّة. أما في حوار التفاوض(مندوب المبيعات مثلا) فإن المجادل يحاول إبرام أفضل صفقة من الناحية الجدلية والفوز باللعبة الحوارية. إن مثل هذه اللعبة لا تهدف إلى إرساء أفضل موقف موضوعي مدعوم بالأدلة من كلا الجانبين كما هو الحال في النقاش النقديّ، بل إلى تحقيق المصلحة التي يسعى إليها المفاوض، وهو موقف يفترضه مسبقًا الطرف الآخر في الحوار. ما قاله همام عن عبدالعزيز هو مثال لما يسمى حجة التحيز، فكيف ينبغي تقييم هذه الحجة؟ لعل الأسئلة النقديّة حول حجة التحيّز تلقي بثقل ظني ضد النتيجة المطروحة: •ما سياق الحوار؟وعلى وجه التحديد هل الحوار من النوع الذي يتطلب من المشارِك أخذ أدلة كلا الجانبين؟ •ما الدليل على اتهام (ص) بالتحيّز؟ يقوم الحوار بين عبدالعزيز وهمام في المناظرة على الحوار الإقناعي الذي يعتمد على المناقشة النقديّة، حيث يطرح كل منهما حججًا قويّة لدعم موقفه ويتفاعلان بشكل جدلي مع الحجج القويّة التي يطرحها الجانب الآخر، مع الانفتاح لها وعدم رفضها أو التقليل منها لمجرد كونها أدلة معقولة تدعم الطرف الآخر. ونلاحظ أن السؤال الأول معني بعدم انتهاك قاعدة مقولة الملاءمة عند جرايس: اجعل مشاركتك ملائمة. فمن غير الملائم التوسل بحجة التحيز في سياق لا يشكل فيه التحيز إخلالًا بأهداف الحوار كما في حوارات التفاوض مثلًا. فمعرفة نوع الحوار تسهم في فهم ما إذا كانت حجة التحيّز وجيهة أو هي ضرب من مُغَالَطة التهجمّ الشخصيّ. فحوار المناظرة الذي انخرط فيه كل من عبدالعزيز وهمام حوار إقناعي يتطلب أخذ أدلة كلا الطرفين، وعليه فإن السؤال النقديّ الأول جاء للتأكد من عدم انتهاك قاعدة مقولة الملاءمة عند جرايس، إذ تنشأ عن انتهاكها مُغَالَطة التحيّز: وهي استخدام حجة التحيّز حين يُتهم أحد أطراف الحوار بالتحيز في سياق يسوغ فيه التحيّز. أشار همام في المناظرة إلى أن عبدالعزيز مستشار في شركة تقنية كبرى، فهل وقع همام في مُغَالَطة التحيّز هنا؟ بالتأكيد لا، فتهمة التحيّز مقبولة هنا لأن سياق المناظرة بين عبدالعزيز وهمام يقوم على الحوار الإقناعي والنقدي، فالانفتاح على الأدلة الجديدة من سمات هذا الحوار. أما السؤال النقدي الثاني ( ما الدليل على اتهام (ص) بالتحيّز؟) فهو معني بمقولة الصدق: لا تقل ما تعتقد أنه كاذب ولا تقل ما لا تملك أدلة كافية عليه. فلو كان همام يعلم أن تهمته غير صادقة أو لا يملك دليلًا لهذه التهمة فهو يقع في مُغَالَطة تسميم البئر وهي ضرب من مُغَالَطات الشخصنة. وهي: «أن تقوم بهجوم استباقي ضد خصم مجادل» وهذا الهجوم والحكم الاستباقي يشتت الانتباه عن الموضوع الأساسي . أما لو كانت دعواه صادقة بأن عبدالعزيز مستشار في شركة تقنية كبرى، فهل يعني ذلك أن حجة التحيز التي أوردها همام هنا حجة وجيهة؟ لعل الأسئلة النقدية تقتضي وجاهة هذه الحجة فقد استخدم همام حجة التحيز في مقام يسوغ فيه استخدامها (السؤال الأول) وقدم دليلًا على صدق دعواه بالتحيز(السؤال الثاني).