للمؤلف د محمد أنور مسيلمة نويلاتي أكثر من كتاب عن حبيبته، مدينة جدة، وقد سبق لنا تقديم كتابه (جدة وأمنا حواء… عبق المكان وعمق الزمان)، وكتاب (أسطورة جدة.. أمنا حواء بين الأساطير والأديان والعلم)، وكلها كتب مهمة أشمل وأعمق فكرة من كثير من الكتب التي تحدثت عن مدينة جدة. . المطلع على عناوين كتبه قد يظن أن نفيه لأسطورة وجود قبر أمنا حواء قد جرد جدة من أكثر مزاياها تقديرا عند الناس، ولكنه في هذا الكتاب توسع في الحديث عن تاريخ المدينة منذ عصور ما قبل التاريخ، مرورا بعصور ما قبل الإسلام ثم عصور الإسلام جميعا، فأظهر مكانة جدة الفريدة في التاريخ والتجارة. كانت جدة حاضرة لإقليم يشمل أجزاء من الحجاز تمتد من مدينة القنفذة جنوبا إلى قرب المدينة المنورة وتضم كثيرا من الأودية التي كانت تزودها بالماء بوفرة اجتذبت الكثير من الأقوام لسكناها منذ حقبً تاريخية بعيدة، ثم يتحدث عن جدة بإعتبارها مفتاحا لمكة المكرمة ومينائها ، طمعت القوى الأوروبية المستعمرة في جدة فحاولت احتلالها عسكريا، أو حكمها بالنفوذ السياسي، وذلك لأنها ولعدة قرون كانت مدينة اقتصادية عالمية تنتهي إليها تجارة الهند والشرق الأقصى ليتم إعادة توزيعها إلى أفريقيا وإلى أوروبا عن طريق مصر، مما وفر لها غنىً إقتصاديا واجتماعيا، بل إن بعض الرحالة الأوروبيين كانوا يقارنونها بمدينة الإسكندرية. يصحح المؤلف الرواية الرائجة عن ما سُمى “فتنة جدة”، إذ أن هذا الإسم أوحى بشكل ما بوجود التعصب الديني ضد غير المسلمين، وهذا غير صحيح، فللمسألة جذورها الاقتصادية التي عكست محاولات الإنجليز للتحكم في جدة اقتصاديا بحيث تفقد استقلالها لصالح شركة الهند الشرقية التي كانت الشكل الإقتصادى للاستعمار الإنجليزي. و خلال الأزمة كان أهل جدة يؤون المسيحيين حماية لهم من غضب التجار. تتجلى في جدة ملامح ما يسمى بعبقرية المكان، وتظهر عبقرية المكان عند توافر بيئة خصبة لظهوره وتتضمن: التمازج بين الثقافات ، التنوع ، والتميز ، وكل ذلك متوفر في جدة. ويتبع هذا الكتاب منهج العالم الكبير جمال حمدان الذي كتب على نسقه كتابه “ شخصية مصر”، وذلك باعتماد مفهوم “ الجغرافيا الشاملة” ، أي الجغرافيا بجميع فروعها، الطبيعية ، البشرية ، الإقليمية ، التاريخية. يصبح تعريف عبقرية المكان هنا متعدد الأبعاد، يعطي كل منطقة تفردها ، وينفذ إلى روح المكان فيكتشف شخصيته الكامنة، ويأتي في إطار الجغرافيا الحيوية التي تعني بظروف وطبيعة وقوانين الحياة في هذا المكان أو ذاك. مثلا إذا أخذنا دائرة مركزها جدة وقطرها ١٧٠٠ كم مربع نجد أن هذه الدائرة تغطي المضائق البحرية الرئيسة في المنطقة وفي العالم القديم، وهذا ما جعل جدة مفتاحا لتجارة المنطقة على مدى قرون. ولقد اتخذ الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه قرارا باتخاذ جدة ميناءً لمكة وكأن الجغرافيا دعمت هذا القرار، لأنه توجد في سلسلة الشعاب المرجانية الواقعة في عمق البحر في مواجهة جدة فجوة وحيدة تسمح بعبور السفن ويقابل هذه الفجوة ممر بين الجبال الواقعة شرق جدة، وهذا الممر هو الطريق الأمثل إلى مكة. إضافة إلى توسطها بين اليمن وشواطئ شرق أفريقيا جنوبا والشام شمالا، وقل مثل ذلك في المسافة بين مينائها وشواطئ البحر المتوسط شمالا وشواطئ المحيط الهندي وشرق أفريقيا جنوبا، ولذا فعندما استولى محمد علي باشا على جدة عام ١٨١٣ جعلها مركزا لقواته في الجزيرة العربية وبنى فيها مستشفىً عسكريا ومطاحن للدقيق ، وبنى ابنه طوسون الركن الشمالي الغربي لسور جدة واستمر العمل لتطوير ميناء جدة حتى يضاهي ميناء الإسكندرية ، ولذا فعندما أجبرت القوى الاستعمارية جيوش محمد على باشا على التقهقر إلى مصر والتخلى عن كل ما أخذته من أراضي الدولة العثمانية أجبرته أيضا على الانسحاب من جدة. وعبر التاريخ ، صدرت جدة كل سكانها في بوتقة العروبة رغم أن منهم ذوي أصول عرقية ممتدة عبر المناطق الجغرافية التي تتصل بها، ولذا فإننا نلاحظ انصهار القادمين إليها في بنية المجتمع ما يؤكد على أنها اكتسبت آلية امتصاص الاختلافات الحضارية وفرضت شخصيتها على كل غريب. تنتهي إلى موضع جدة أكثر من مئة وادٍ وروافد مائية تتجمع قبل وصولها إلى البحر وهذا ما وفر الماء الذي جذب إليها الاستيطان البشري عبر العصور. كما أن جدة كانت مستقلة عن ما حولها إداريا ، مما سمح للسكان بتشكيل نمطها الخاص في إدارة شئونها. وعندما حكمها العثمانيون أصبحت (صنجقية) تتمتع بمجلس إداري يتبع العاصمة اسطنبول مباشرة. في القرن الرابع الهجري اتخذها تجار فارس قاعدة لتجارتهم مع اليمن والهند ومصر، وقد طوروا الميناء وبنوا سورا وصهاريج مياه، بقوا ثلاثين عاما ولكنهم اختلفوا مع شريف مكة فتركوها ، وملأ الفراغ الذي خلفه مهاجرون من صعيد مصر ومن اليمن ومن عمان، وفي مطلع القرن العشرين وصفت دائرة المعارف البريطانية سكان جدة بأنهم تركيبة من عرب الحجاز ونجد ومن اليمن ومصر والشام والمغاربة ومن المسلمين الأتراك والأفارقة والفرس ، وكذلك تجار يونانيون وطليان وإنجليز وفرنسيون . وفي إحصاء السكان الذي أجراه الأتراك عام ١٨٨٨م بلغ عدد سكانها خمسة وعشرين ألف نسمة. أظهرت الدراسات أن أرض الجزيرة العربية كانت مغطاة بالنباتات، ذات مناخ ممطر معتدل ، وأظهرت المسوحات الأثرية في منطقة جدة وجود استيطان في العصور الحجريّة الثلاثة ، الأشولية والموستيرية والهلستينية. وفي العصور التاريخية استوطن الثموديون الأودية حول جدة ، وهؤلاء ليسوا قوم صالح المذكورين في القرآن الكريم. وربما استوطنت قبائل قضاعة منطقة جدة فيما بعد. في العصر المملوكي كانت جدة أهم مركز لتجارتهم البحرية، وعندما اكتشف البرتغاليون رأس الرجاء الصالح حاولوا تغير مسار النقل البحري بين الهند والعالم ليصبح عن طريق برشلونة بدلا عن جدة ، وعزموا على إغلاق البحر الأحمر، فأرسلوا أربع حملات عسكرية بحرية في القرن السادس عشر، ولكنها خسرت أمام المدافعين عن جدة وتم بناء سور للدفاع عن جدة في عهد حسين كردي القائد المملوكي. وهكذا تطورت تجارة جدة وأصبح ميناء السويس مجرد مخزن لميناء جدة، ووصلت قمة ازدهارها في القرن التاسع عشر، عند وصول نابليون إلى مصر عمل اتصالات لكي ينسق التجارة في البحر الأحمر بين جدة والسويس، أما الإنجليز الذين كانوا يحكمون الهند فقد فرضوا تأثيرهم على جدة من خلال القنصل الإنجليزي، مستغلين ضعف الدولة العثمانية التي منحت قناصل الدول الأوروبية صلاحيات واسعة. كان أول قنصل في جدة هو القنصل البريطاني الذي وصل عام ١٨٠١، ثم تلاه القنصل الفرنسي وقناصل آخرين. ورغم أحداث العنف التي سماها البعض “ فتنة جدة” فقد ظلت جدة على طبيعتها المتسامحة تنمو كمدينة عالمية للتجارة، ومدينة تستقطب المسلمين من كل العالم القادمين للحج ، قامت البروفيسورة الألمانية فرتيخ بدراسة تاريخية تحليلية عن جدة في القرن التاسع عشر، وصفتها بأنها مدينة كونية عالمية (cosmopolitan ) وأضافت إلى هذا المصطلح فيما يخص موقع جدة الجغرافي والروحي للعالم الإسلامي، فقالت : إنها مدينة كونية شعبية إسلامية (vernacular ) ثم أضافت إلى أوصاف جدة مصطلح ( conviviality) أي مدينة العيش المشترك بين كافة أصناف السكان واعتبرت أن خاصية المخالطية الإجتماعية تقوم بمنزلة الصمغ الذي يربط مكونات المجتمع. يقول المؤلف إن التدين الشعبي (الصوفي) كان من سمات جدة في القرن التاسع عشر. فمنذ العصر الذي أصبحت فيه جدة ميناء مكة كان الحجاج يصلون إلى جدة فيقيمون أياما ليستعدوا بالتطهر والتعبد للوفود على بيت الله الحرام، ويذكر أن الصحابيان عبدالله بن عباس وأبو هريرة -رضي الله عنهما - قد فعلوا ذلك. وقد كان كبار الصوفية في رحلتهم إلى بيت الله الحرام يقيمون فترة في جدة وقد يقيمون زوايا وأربطة تبقى من بعدهم لمريديهم، بل إن طائفة البهرة الهندية الإسماعيلية كان لها أوقاف في جدة، وقد تأثرت جدة بالممارسات الصوفية القادمة من السودان واليمن ومصر، وكان فيها مجموعة من الزوايا تخص كل منها طريقة مختلفة من التصوف، وقد ازدهرت تلك الطرق في عصر الدولة العثمانية، فكثير من السلاطين كانوا من المتصوفة، كما أن العثمانيين شجعوا التصوف تعويضا عن قصور الخدمات كالتعليم والصحة في الحجاز مقارنة بإسطنبول، إلى ذلك فإن الممارسات الصوفية بما فيها من تزهيد في الدنيا وإيمان خرافي بفضائل بعض شيوخهم التى تساعد على الشفاء من الأمراض كانت مفيدة في امتصاص ثورة الناس على فساد الولاة العثمانيين. مثلا كانت الطريقة السنوسية تحرم الخروج على العثمانيين لأنهم حكام مسلمون، كذلك فإن الطرق الصوفية كانت تقدم خدمات اجتماعية واقتصادية وتعليمية بل وعسكرية أحيانا، فقد استطاع أحد المتصوفة من المغرب - كما يقول المؤرخ الجبرتي- جمع مئات من المقاتلين في جدة، انتقلوا إلى مصر لمحاربة الفرنسيين، وحملوا معهم الكثير من الدعم العيني. كما كان للصوفية نشاط في الإصلاح بين الناس وتقديم الصدقات وبناء الأوقاف لإيواء العجزة و المنقطعين، ولكن كان هناك أضرحة وما إلى ذلك من ممارسات أكثرها غير مقبول. وقد فصل الكتاب عن الطرق الصوفية و أماكنها في جدة، واستعرض الوثائق التي تدل على رعاية بعض هذه الطرق من قبل الإدارة العثمانية. كانت جدة المركز الأول لهجرة أهالى حضرموت منذ عصور الإسلام الأولى، جاؤوا يبتغون العلم الشرعي، ثم التجارة، وقد حصلوا على مزايا رسخت وجودهم التجاري في عهد السلطان محمود خان ( ١٨٣١) واستمر ذلك فيما تلاه من عهود ، وفي تقرير للقنصلية الفرنسية قالت : إن معظم تجار جدة من أصل حضرمي، ويمتازون عن جميع المسلمين بالاستقامة والذكاء. وعندما أصبحت قوافل الحجيج تُهاجم من قبل بعض أبناء البادية، بسبب الجهل والمرض، أرسل الشريف محمد بن عون ثمانية وأربعين رجلا إلى البادية يعلمون الناس أمر دينهم، كانوا من الحضارم، ونجحت جهودهم في تقليل السلب والنهب، وقد قام السلطان العثماني بتخصيص رواتب شهرية لهؤلاء المعلمين. والكتاب في جملته عمل محترم يكاد يكون غير مسبوق في ما أُلف عن جدة، وقد توقف المؤلف عند بداية العصر السعودي، وآمل أن يستكمل هذا الجهد في كتابٍ تالٍ.