التطوع..روح تبني المستقبل.
يقول الروائي الفرنسي فيكتور هوجو 1802 – 1885م “إن أعظم القلوب هي التي تنحني لترفع غيرها”. وقال الأمين العام لـهيئة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش “يجسد المتطوعون أفضل ما في الإنسانية من قيم، للمساعدة في صنع عالم أفضل للجميع”. وتُجْمِع الأديان على أن عمل الخير قيمة أخلاقية عظمى، وواجب يرتقى بصاحبه إلى الدرجات العُلى. وقد نصّ القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى “فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له” سورة البقرة الآية 184، وقوله” فمن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيرًا يره” سورة الزلزلة – الآية 17. وهذه الرسائل الإلهية، وغيرها مما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، أشد ما تكون وضوحًا في الحث على التطوع بالمال والجهد والرأي دعمًا للإنسان، وإعانةً للضعيف، ونشرًا للسلام الاجتماعي. حيث يُبرز التراث الإسلامي المبكر نماذج فريدة في العطاء، من أشهرها مبادرة الصحابي الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه حين اشترى “بئر رومة” وجعلها وقفًا للناس كافة، لتصبح واحدةً من أقدم المبادرات التطوعية المستدامة في التاريخ الإسلامي. كما أن هذا “الوقف” نفسه يمثل مؤسسة تطوعية ذات أثر تنموي متواصل عبر قرون، لا يزال المجتمع يتفيأ خيره حتى اليوم. إن العمل التطوعي يعتبر إكسير التنمية، ونكهة الحياة، لأنه يُفَعِّل قدرات المجتمع ويوجه طاقاته نحو البناء، خاصة في مجالات البيئة، والتعليم، والخدمات الإنسانية، وتمكين الفئات الهشة، وإغاثة المحتاجين. وقد أكد علماء الاجتماع أن الفرد حين يتطوع، فإنما يحقق ذاته ويشعر بالرضا العميق الذي يدفعه نحو مزيد من الإنتاج والعطاء. جميع التقارير والدراسات – المحلية والدولية – تجمع على أن الشباب هم عمود التطوع، فهم الأشدُ حماسًا، والأقدرُ جسديًا، والأكثرُ رغبةً في خوض التجارب الجديدة، لا سيما في المجالات الملائمة لقدراتهم مثل تشجير الجبال والأودية، وتنظيف الشواطئ والبيئات الطبيعية، وجمع المساعدات وتوزيعها على المحتاجين، وتعليم الأيتام وأبناء الأسر الفقيرة، والمساهمة في محو الأمية التقنية، وكل هذه الأنشطة لا تؤدي فقط إلى تحسين البيئة أو دعم الفئات الضعيفة، بل تعزز لدى الشباب الشعور بالمواطنة، وتعمق فيهم روح المسؤولية، وتكوِّن لديهم مهارات القيادة ، مما ينعكس إيجابًا على مستقبلهم الشخصي والمهني. قدّم العالم نماذج لأفراد نذروا حياتهم للعمل التطوعي، مثل الطبيب السعودي “الدكتور عبد الناصر الهلالي” الذي يجوب القرى النائية، ويلج الغابات الموحشة في أدغال أفريقيا لمعالجة الفقراء الذين أكلت منهم الأمراض وشربت. والطبيب الكويتي الدكتور عبد الرحمن السميط الذي أمضى ثلاثة عقود في خدمة المحتاجين في أفريقيا، فأصبح رمزًا إنسانيًا عالميًا. والراهبة “الأم تريزا” هندية الجنسية ألبانية الأصل، التي طاب لها المقام في الهند وتمحورت اسهاماتها حول خدمة الفئات الأكثر تهميشًا، خاصةً من المرضى، والمحتضرين، والأطفال المشردين، والمصابين بالجذام. وقد حصلت نتيجة لذلك في عام 1979م على جائزة نوبل للسلام. هذه النماذج الإنسانية الرائعة - وغيرها كُثُر - تؤكد أن التطوع ليس امتدادًا للرفاه الاجتماعي فحسب، بل هو مسؤولية أخلاقية تتخطى الثقافات القومية، وتتجاوز الحدود الجغرافية. إن تجارب الدول التي قطعت شوطًا في مجال التطوع تؤكد أن نجاح هذا القطاع مرهون بوجود بنية تشريعية وتنظيمية تحميه، وتنظم آلياته، وتضمن استدامته. وفي المملكة العربية السعودية، شكّل صدور “نظام العمل التطوعي” نقلة نوعية لمأسسة هذا القطاع الحيوي الهام، كما اخذت “المنصة الوطنية للعمل التطوعي” على عاتقها تطوير هذا القطاع وتوحيد ضوابطه وتيسير أنشطته. وقد أعلن في نهاية عام 2024م معالي وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية رئيس مجلس إدارة المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي المهندس أحمد بن سليمان الراجحي أن العمل التطوعي في المملكة قد حقق أرقامًا كبيرة خلال عام 2024م، وبما يتواءم مع مستهدفات “رؤية المملكة 2030” حيث وصل عدد المتطوعين إلى (1.000.000) متطوع، وهذا المنجز الكبير يأتي ضمن مستهدفات “رؤية المملكة 2030” حيث تم تحقيقه قبل موعد الاستحقاق بست سنوات. كما بلغ عدد الفرص التطوعية قرابة (440.000) فرصة، إضافة إلى وصول عدد الجهات المسجلة في المنصة (8.397) جهة. وبلغ عدد الساعات التطوعية ما يزيد عن (59) مليون ساعة، بينما بلغ حجم العائد الاقتصادي نتيجة العمل التطوعي (1.2) مليار ريال. في مقال سابق نشر في “مجلة اليمامة” الغرَّاء بتاريخ 13/01/2022م اقْتَرَحْتُ إنشاء بنك للأعمال التطوعية، تُرصَدُ فيه جهود المتطوعين، لتتحول من “كيف” إلى “كم” وتُضاف إلى السيرة الذاتية للمتطوع كعنصر ترجيحي عند التوظيف أو الترشح للمجالس واللجان الأهلية والحكومية. ومن نافلة القول أن تحويل العمل التطوعي إلى رصيد كمي سيغير ثقافة المجتمع جذريًا، ويجعل التنافس قائمًا على العطاء النبيل لا في اهتبال المصالح الدنيوية. في الختام أود التأكيد على أن المتطوع هو إنسان اختار أن يوسّع دائرة ذاته لتشمل الآخرين، حتى أضحى المتطوعون القلوب النابضة في جسد الأمم الحية، والرغبة الصادقة في مسيرة السلام الإنسانية. حقًا إن التطوع هو الروح الخَيِّرَة التي تبني المستقبل، وتجعل الأفراد شركاء حقيقيين في التغيير الإيجابي.