قراءة في قصيدة الشاعر جاسم الصحيح (جرح مفتوح على نهر الكلام)..
عقد نظيم للرؤى والأفكار وهندسة تعبيريّة أنيقة حسيّة التصوير غنائيّة البوح.
من المعروف أن جاسم الصحيح شاعر ذو لغة أنيقة تعتمد معايير دقيقة على خلفيته المعرفية العلمية ؛ فهو يوائم بين الانسجام في التصوير بلاغيّاً كما في صوره الوامضه او لقطاته المشهدية، و يتكيء على الصور ذات السمات الحسيّة، ما يذكرنا بما ذهب إليه صلاح فضل في كتابه (أساليب الشعرية المعاصرة) في تصنيفه لتلك الأساليب حين تحدّث عن (اللمس بالشعر و شعرية الحس) مستشهداً بما ذهب إليه نزار قباني من أن وظيفة الفن هي الملامسة ، فلن يكون اللون لونا إلا إذا لامس العيون ، ولا اللحن لحناً إلا إذا لامس الآذان ، ولا الصوت صوتاً إلا إذا لامس سطحاً ما (وأنا هنا أنقل عبارته بتصرف طفيف) وهي منقولة من كتابه (قصتي مع الشعر) ص162 و 163 فهو يوظّف الصور الحسية (بصرية، سمعية، شمية ... الخ) بمهارة، وقد أفضى استثماره للغة على هذا النحو إلى مايشبه التصميم الهندسي للقصيدة وترابطها في بنية متماسكة متكاملة. وهنا لا أقصد إلى التكلف و التصنع ؛بل إلى موهبة مُنظّمة صقلتها التجربة الحياتيّة العملية في تعاملها مع الأشياء و الأحياء ، وفي الوقت ذاته صلتها الوطيدة بالثقافة التاريخية والفلسفة والهوية ، وهو في ذكره للمرأة يبدو مبتكراً لرؤية تتماهى مع نزعته الحسية في تأويلاتها الوجدانية غير التقليدية ذات الملامح الوجودية ، وثمة من يشير إلى التنوع الموضوعي في شعره ؛ ولعلي أذهب وجهة أخرى فأنأى بالشاعر عن الأغراض التقليدية و الموضوعات المألوفة لأ نحوَ منحىً آخر يركّز فيه على الرؤيا التي تتناسب مع الحداثة الشعرية، دون أن يوغل في فضاءات الغموض و المبالغة في منهج (التخييل) وله منهجه في التناص الذي يتراوح بين الاستلهام و الاستحضار النّصي المباشر لتعميق رؤيته الفلسفية و الفكرية الوجدانية عبر الحضور المختزل للأسماء والأحداث في مرجعياتها الثقافية و الإسلامية ، في شكل إسقاطات ذات أفقٍ دلاليٍّ رحب ؛وهو يستقي صورَه الفنية من الجوارح والأمكنة و الكون و الطبيعة من خلال نبضه العاطفي . ولعل قصيدة “جرح مفتوح على نهر الكلام» من القصائد التي تفتح للناقد آفاق عالم جاسم الصحيح الشعرية؛ فالقصيدة رحلة في عوالم الشاعر الداخلية تتقرّى رؤاه وموقفه وهواجسه ، وعنوانها مفتاح الولوج إلى ما يدور في ذهنه و ما يجوس في وجدانه وما يخالجه من خواطر : فالجرح شكلاً يوميء إلى النزف المؤلم الذي يستنفد رحيق الحياة وكلمة مفتوح معنىً تفيد التواصل بين الجرح واالتعبير عنه، بما يوحي به من تدفّقه شعراً في صدق وصفاء دون تكلّف أو ادّعاءٍ، أو مراوغة فالقصيدة بوح صريح وقراءة صادقة لما يعانيه الشاعر فيعمد إلى إفراغ شحناته النفسية ومعاناته الداخلية متخفّفاً من أعبائها، وهذا ما يفضي به هذا المقطع: “بمِلعَقَةٍ من القَلَقِ المُحَلَّى أُحَرِّكُ في دمي ضَجَرًا مُمِلًّا على نهرِ الكلامِ فتحتُ جرحي ورُحتُ أُراوغُ المعنى المُضِلَّا” أما الحقول الدلالية لمفرداته ، فهي تشي بالمعاناة النفسية عبر كلمات (القلق و الضجر و الجرح) وقد عمد الكاتب إلى إثراء الإيقاع الناجم عن تكرار الوحدات العروضية (التفعيلة) عبر القسمات الصوتية بالتكرار الذي يتمحور في حرف الهاء المشتركة بين المفردات الثلاث( وجهي و الهمس و الإلهام) والجمل القصيرة في تتابعها وتواليها ؛ ولعله من نافلة القول تكرار الإشارة إلى حسّية الصورة لديه ودينامكاتها الحركية، ومرجعياتها إلى الحواس البصرية و السمعية و الذوقية كصورة الجرح والنهر و الهمس بما يتّسق مع سمات العراف في تعبيرهما عن عوالم الخفاء و الأسرار والملاك ، ولعل من السمات المميزة لأسلوب الشاعر معجمه الدلالي الذي يرتكز عليه في كثير من قصائده (الجرح، الضوء، النداء، والهوية ) بوصفها مفاتيح الثيمات الرئيسة في شعره فهو وإن زُجّ به نقديا في إطار الاتجاه الحّسي فإنه ينطلق من مرتكزات وجدانية ذات طابع يتّسم بالوعي اليقظ لما حوله في سياقاته المعنوية و الوجودبة بعامة. منذ المقطع الأول من هذه القصيدة يبوح الشاعر برؤيته لفنّه الشعري وحواره مع الكلمة الشاعرة في نظام وتسلسل وتمثيلٍ حيٍّ يكشف الطابع الهندسي العميق في ترتيب خواطره وضبط سياقها في منظومة أنيقة خالية من الترهل وسقط القول : أُحَرِّكُ في دمي ضَجَرًا مُمِلَّا على نهر الكلامِ فتحتُ جرحي ورُحتُ أُراوغُ المعنى المُضِلَّا وبوصلةُ الشعورِ تقودُ نصِّي إلى ما قَلَّ من وجعي ودَلَّا فثمة حراك حسي منظور يحوّل الطاقة الشعورية عبر التخييل إلى فعل منظور ، وثمة دراما وجدانيّة تتمثّل في مراوغة المعنى ومخاتلته والتماس أقصر الطرق إلى الإيجاز المنجز، مُستثمراً شوارد الحكمة (خير الكلام ما قلّ ودلّ) في تناصٍّ استدلاليٍّ ، وتمثيلٍ حسّيٍّ يتحرّى الكشف عن ماهيته الوجودية عبر رسم بروتريه مرئي يميط اللثام عن طبيعته بوصفه شاعراً ملهماً موهوباً عبر تشبيهه بوجه العرّاف والملاك ، ثنائية تجمع بين المعرفة السحريّة و الموهبة الربانيّة. وعبر جدلية الغياب و الحضور يصوغ الكاتب من خلال الثنائيات المعنوية و الحسية وعبر الغياب و الحضور ما ينتابه من أحوال في معاناته الإبداعية ، فثمة توحُّد جامع فريد مع المعنى و استغراق روحاني خاشع لحظة الإبداع. وتقلّب الحال والمزاج االذي جسده وفق منهجه الحسي بالعسل و الخل فهو يستجيب لكل حال بما يناسبها ، و ينحت من لغته عبرالطاقة الاشتقاقيّة الثريّة لها ثنائية تناسب مزاجه (أحلو ) و (أخلو) من الخل ، وهنا تتجلى أناقته التعبيريّة الفريدة ونظامه في الصياغة اللغوية، بما يتسق مع أناقته في البناء و التشكيل: أنا المعنى الذي جَمَعَ المعاني إمامًا ثمَّ قامَ بها وصَلَّى وفي منظومة غنائيّة ذاتيّة يستقصي عناصرها خلاله ناسباً فضائلها لذاته ومنتسباً إليها ، فهو يصوّر خلقه وأمله وصراحته ودوره في مراوحة أسلوبية بين تقريريّة صريحة وتصويريّة معبّرة. وفي إطار هذه المنهج التعبيري يستقصي الشاعر بمجازاته وكناياته، وفي تسلسل في عقد نظيم صفاته التي يعتزُّ بها و يقدّمها بين يدي سامعه أو قارئه في بوح صادق ومناجاة حميمة ، مكرّرا قوله (ولي) مؤكداً على خصوصيتة في قراءة صريحة لقسماته الأخلاقية وملامحه ومنهجه : ولي حجرُ الصراحةِ حين يقسو ولي قمرُ المجازِ إذا تجلَّى ولي خُلُقٌ على الأيَّامِ يكفي لأكتبَ عن مآسيها سِجِلَّا ولي أَمَلٌ تولَّى حُكْمَ قلبي فرُحتُ أُتَوِّجُ الأَمَلَ المُوَلَّى ولي (قُزَحٌ) وحيدًا في الأعالي هناكَ.. بحُسنِ صورتِهِ تَسَلَّى ولي دورُ الأميرِ.. ولا أميرٌ ولكنَّ القصيدةَ (سندريلَّا) الصراحة والصبر والأمل والفرح ؛ وأما القصيدة التي يبدعها فيستعير لها شخصية خياليّة تتّصف بالجمال والصبر و اللطف (سندريلا ) وهي نموذج لمن يحقق النصر بعد معاناة، فقد تزوّجت سندريلا (الشخصية الخيالية) من أمير بعد صبرها ومعاناتها من زوجة والدها ، فقصيدته التي تولد بعد معاناة يستلهم لها نموذجاً استعاريّاً هو سندريلا التي تحققت بها أحلامه في الإبداع الشعري . و وفقاً لمنطقه الأنيق المنظّم في شعره يصور في مقطع تالٍ معاناته ومكابداته وإكراهات ذاته، مُستلهماً في إشارة لطيفة ذكيّة ما جاء في القران الكريم من استثناء للصالحين المتقين في آيات بيّنات تعفي الشعراء الصالحين و المؤمنين من كونهم الشعراء الذين قال الله تعالى عنهم “ والشعراء يتبعهم الغاوون ، ألم ترَ أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون” ويعمل على استكمال النقص حتى يستوفي الكمال كما في قوله: فلم أبرحْ (أهيمُ بكلِّ وادٍ) وأزعمُ أنَّني من أَهْلِ (إِلَّا) وفي شريط متصل عبرَ متواليات منظومة بعناية يأتي الشاعر بجملة من الصور التي تتقرّى ملامح شعره ونثره ، ويوميء إلى ارتباطه العاطفي ب(ديرته) الأحساء فيجعل من شعره وثيقة وفاء لها وتغنٍ بجمالها فزادها روعةً وبهاء يقول المعجبونَ بأنَّ شِعري يضاعفُ واحةَ (الأحساءِ) نَخْلَا يقول المعجبونَ.. ورُبَّ قولٍ يحَمِّلُني بحجمِ الوحيِ ثِقْلَا! فأشعرُ أنَّني حَرَّرتُ شعبًا من الأغلالِ إنْ حَرَّرتُ عَقْلَا وهو يلامس بعدا فلسفيا في رؤيته الشعرية حين يرى أن تحرير الشعوب يكون نتيجة مثلى لتحرير العقول ، ويشعر بثقل المهمة التي امندب إليها عبر خطابه الشعري . ويمضي في البوح والاستبطان لموقفه الإبداعي وإحاطته برسالته المرجوّة فيشير إلى أنه نهض بهذه المهمة في توازنٍ واتساق فأعطى كلاً حقه لم يبخسه شيئا: الرجولة والأنوثة ، غيرهما ممثلا لذلك في تخييل مألوف : الوعول و الذئاب ، حيث تتشكّل صوَره الشعريّة عبر المحسوسات من الأحياء و الأشياء و الكون و الكائنات في تراتب وانسجام ، ويمضي الشاعر في معلقته التي استعرض فيها ملامحه النفسية و الفكرية و الوجدانية والإبداعية، متتبعاً مستقصياً في شريط متّصل يتحدّر من ينبوع مياهه الصافية التي لا كدر فيها ولا عُجب ؛ بل قول صريح يمتح من بئرٍ أغوارها عميقة ولكنها نقية . القصيدة طويلة لا تفي بحقها هذه المقاله ؛ أتمنى أن تتاح لها دراسة عميقة.