أكثر الأشياء بقاءً.

قد تتهدم الأحجار المبنية والصخور، وقد يصدأ الحديد ويذوب النحاس. يموت الناس وتفنى عظامهم... تفنى حضارات وتقوم أخرى؛ لكنّ هناك ثابتًا واحدًا لا يفنى ما دامت الحياة قائمة، أو هو أقلها فناءً على الأقل؛ وهو الكتاب. ولا يعود هذا البقاء للكتاب إلى قوته المادية الذاتية؛ بل على العكس من ذلك؛ فالورق ضعيف بطبيعته، يمكن حتى للطفل الرضيع أن يحدث به الضرر؛ لكن بقاءه ينبع من عدة أمور؛ أولها أنه يشكل ذاكرة أي مجتمع؛ ومن ثم يحرصون عليه من الضياع والفناء؛ لأنه أقوى سلاح ضد النسيان، وهو الجسر الذي يصل بين مختلف الأجيال، ولذلك فإن الناس في مختلف العصور يحاولون الحفاظ عليه. أما ثانيها فهو أنه قابل للنسخ بمئات أو آلاف النسخ التي قد تنتشر على مساحة جغرافية شاسعة ومتباعدة لا يمكن إفناؤها جميعًا من قبل أي شخص. بل قد تختفي مدن بكاملها تحت الأرض وقد تنال عوامل التعرية من جبال شمّاء وتنحتها بمرور السنين، لكنها لا تستطيع أن تنال من الكتب؛ لأنها محفوظة تحت ظروف متنوعة. فعلى سبيل المثال علوم أرسطو ما تزال إلى الآن باقية فنحن نقرؤها بعد مرور آلاف السنين على تأليفها، في حين أن إمبراطورية الإسكندر الأكبر، تلميذ أرسطو، وفاتح العالم، مع أنها امتدت من اليونان إلى الهند، فقد انهارت وزالت. ونقرأ كذلك لأفلاطون، بعد أكثر من 24 قرنًا من وفاته، وكأنه يتحدث إلينا اليوم، ونطرب لقراءة أشعار الحكمة التي قالها المتنبي قبل عدة قرون وكأنها قيلت اليوم، حتى لنكاد نصفق له من فرط إعجابنا بها. وقد نقرأ رواية مأساوية مضى عليها عقود أو قرون فتتساقط دموعنا على أحداثها رغم معرفتنا بأنها مجرد رواية خيالية. كل هذا رغم أن أحدنا لا يتذكر بدقة العملات التي كانت متداولة أيام سُطرت هذه الكتب أو قيلت تلك القصائد أو كتبت تلك الروايات. حتى إذا أحرقت كتب – ولطالما أحرقت في تاريخ البشر - فإن نسخًا أخرى منها تبقى موجودة وخالدة، فكل قارئ هو حارس لها بما قرأه منها وبقي منها في ذهنه، وكل كاتب اقتبس كلمة أو فقرة منها هو حافظ لها، وكل مكتبة هي بمنزلة ملجأ للكتب من محاولات التخلص منها. وقد كان لنسّاخ الكتب دور مهم في المحافظة عليها، حيث كانت وظيفتهم نسخها يدويًّا بعدة نسخ قد تصل للمئات، وربما الآلاف إذا كان الكتاب مُهمًّا، ما يجعل من أي كتاب مجرد نسخة لا يضرها أن تفنى لأن هناك بديلًا عنها. وحين جاء مخترع المطبعة يوهان غوتنبرغ (عام 1450م) سهّل من عملية الاستنساخ بالآلاف والملايين، وهو ما جعل من انقراض أي كتاب أمرًا شبه مستحيل. وحتى كُتب بعض المكتبات التي أحرقت بقيت نسخ منها صامدة، كما حصل لبعض كتب مكتبة الإسكندرية، وبعض كتب بغداد التي أحرقها وأغرقها المغول. واليوم حتى لو أحرقت مليون نسخة من كتاب فإن بقاء نسخة واحدة في يد قارئ هو ضمان لديمومتها صارخة في وجه من حاول سحقها. وحتى حين تحرق آخر نسخة من كتاب ما فإنه حين يكون مؤثرًا ومهمًّا فإن فكرته تبقى؛ لأن الكتاب فكرة والفكرة لا تحرق، لكنها يمكن أن تقاوم بفكرة لا بنار أو هراوة. وخلاف بقية الاحتياجات التي يتخلص منها الإنسان حين الانتهاء منها، كالطعام والشراب وسائر الاحتياجات، فإن قارئ أي كتاب لا يعمد في الغالب إلى التخلص مما يقرؤه، بل يحتفظ به في مكتبته الشخصية وتتداعى أفكاره إليه وتسترجع كلما شاهده أو مر به، بل قد يحن إليه كما قد يحن إلى أي أمر آخر، وهو ما يسمى بنوستالجيا الكتب. وكثيرًا ما نسمع عن كتب أبقاها مشتروها في بيوتهم حتى أخذهم الموت، رغم أن الكتب كانت تأخذ حيزًا مهمًّا من مكان سكنهم، ورغم معرفتهم التامة بأنهم لن يحتاجوا إلى قراءتها ثانية. كل هذه الأمور تجعل من العسير إفناء أي كتاب من الوجود حتى وإن اختفى وصعب الحصول عليه. فكل كتاب يستنسخ نفسه في وعينا، ويغدو جزءًا من لغتنا ومن نظرتنا للحياة، بل ومن عاداتنا وتقاليدنا ونمط حياتنا، بل إن كتابًا واحدًا يقرؤه أحدنا قد يحدث من الأثر ما لا تحدثه تجارب عشرات السنوات. وحتى بعد زوال الكتب فإنها تبقى في الوعي الجمعي البشري.