(قراءة في كتاب «تخييلُ الهُوية في الروايةِ العربية» الفائز بجائزةِ كتارا 2024 – فرع الدراساتِ النقدية للكاتبِ والدكتور بوشعيب الساوري) العالمُ المنفلت والخارج من أزمةٍ إلى أزمة، سوف تشعرُ الذات فيه بانسدادِ الأفق حينما ترغبُ بالتعبير عن ذاتها، فالفضاءُ العام اختلفَ عن السابق، وبات غير ممكنٍ اللجوء والاحتماء بالأرضِ والمجتمعِ واللغةِ والدين، وهي العناصرُ الأربعة في تكوينِ الهوية، التي غدت متشظيةً وعابرةً للانتماءات ولا يمكن التكهُّن بها؛ ما يدفع إلى إعادةِ تعريفها وتعيينها وفق المتغيِّرات والمستجدات، وهذا ما يحاوله ويسعى إليه كتابُ «تخييل الهوية في الرواية العربية». حدَّد الساوري الإطار العام لدراسته، حيثُ «درس الهويِّة بمختلف وجوهها ومستوياتها وحدودها: الفردية الشخصية، الاجتماعية والوطنية، العقائدية والفكرية» محلِّلاً ومقارباً «ثلاثة عشر نصًّا روائيًّا» من مختلف الأقطارِ العربية، مستفيداً من حقول معرفية متنوعةٍ «انشغلت بإشكالية الهويِّة: علم النفس، علم الاجتماع، الفلسفة، والدراسات الثقافية». قسَّم النصوص الروائية إلى أربعِ مجموعات، كل مجموعةٍ احتوت إشكالاً كوَّن فصلاً من فصول الدراسةِ: «أزمة الهوية، عنف الهوية، الآخر وسؤال الهوية، تشييد الهوية»، طارحاً في كل فصل سؤالاً يعالج الإشكالَ ويحاول الإجابة عليه، معتمداً تشريحَ الروايات ثم إعادةَ تركيبها للوصولِ إلى الاستنتاجاتِ والخلاصات. الفصلُ الأول ناقش «أزمة الهوية» متسائلاً عن: كيف يتم تخييل الهوية روائيًّا؟ ليكشفَ بعدها «الحلول العملية والفنية التي سلكتها»، أما الفصل الثاني فطارحَ مسألة «عنف الهوية» متطرِّقاً «إلى كيفية انخراط الروائي في تخييل العنف، وتحيينه، وجعله ظاهرة» موضِّحاً: كيف يقرِّب ذلك من اكتشافِ الهويِّة ومعرفتها؟ بينما الفصلُ الثالث تناولَ إشكالية «الآخر وسؤال الهوية»، حيث أجابَ على سؤالِ: «ما درجة حضور الآخر» وأيُّ دورٍ يؤديه في بنائها وإبرازها؟ ليختتمَ بالفصل الرابع الذي عالجَ إشكالية «تشييد الهوية»، مجيباً على سؤال: كيف يتمُّ تشييدها وتكوينها؟ أربعةُ إشكالات تسير بالدراسة منذُ بدايتها وصولاً إلى عرض النصوصِ والتحاور معها واستنتاجِ الإجابات، إذ يرى أزمة الهوية سببُها «الافتقار إلى الشعور بالوحدة وبالانتماء وبالقيمة وبالتناسق والاستمرارية في الزمن»، حيثُ العلاقة بين الشخصياتِ وبيئتها يشوبُها «التوتر والإحراج»، وهو ما عالجه بأساليبَ متنوعة، منها «التذكر، الإقبال على الحياة، المواجهة، بعث الذاكرة المنسية، مراجعة مسار الحياة ومساءلة الاختيارات». العنفُ في الرواية انعكاسٌ للعنف في المجتمع؛ لهذا يسعى الروائيون إلى «تعميق فهمنا للعنف»، باعتباره فاعلاً أساسيًّا «في تشكيل هويات شخصياتـ»ـهم، فيضعونَ القارئ «أمام عنف يتكلَّم عن ذاته، بالاعتراف به وفضحه من أجل فهمه ووعيه»؛ هادفينَ إلى «تشكيل الهوية» السرديةِ وإبرازها. تظلُّ «إشكالية الهوية في علاقتها بالآخر» متلبِّسة بالآخر ومتدخلة معه في جدليَّة (أنا هو أنت)؛ لتأتي النتيجةُ «التباساً» في تحديدها وتوصيفها، حيث تضيقُ وتنحصر في فئةٍ معينة، وهو ما عالجه عبرَ الدعوة إلى الانفتاحِ و»إعادة النظر في أنفسهم وفي علاقتهم مع غيرهم بغية خلق مجال للتعايش وتجاوز النبذ والإقصاء». مسألةُ تشييد الهوية تختلف من شخصيةٍ إلى أخرى، وغالباً تحضر عن طريقِ «التقصِّي في ذاتها، وفيمن حولها»؛ ما يقودُ إلى إصابتها «بالوحدة والغربة والتمرد»؛ لتتمَّ معالجتها بـ»التخلص من وعي قديم وبناء وعي جديد، يمكِّنها من تشييد هوية جديدة تهتم بالحاضر، وتتطلع إلى المستقبل»؛ من أجلَ «مواجهة التهميش والإقصاء والانتقاص منها». إشكاليةُ الهوية في عالم اليوم تعدُّ إحدى الإشكاليات الكبرى، حيثُ مشاكل الهجرةِ والتجنيس، والارتحالِ والغربة، والهربُ من الذات والمجتمع، واللجوء إلى واقعٍ افتراضي؛ تحقق للذاتِ مكانتها وتنتشلها من التشتُّت والضياع الناتجِ عن التباس الهويِّة وعدم القدرة على تحديدها، ومن هنا تأتي أهميَّة الدراسة؛ لأنها تُلقي الضوء على التحولات العميقةِ المؤثرة في تشكيل الهويِّة واختلافها، وفي كيفيةِ تشييدها حينما تُلغى وتصبح «هويات مكتسبة»، نتيجةَ البعد عن الأرضِ واللغةِ والمجتمعِ والدين. 1 نوفمبر 2025م