الاحتفاء ببطل خيالي.
جرَتْ لأول مرّة في العالم احتفالات في ثلاث قارّات، بمناسبة مرور مائة عام على ميلاد شخصية أدبية خيالية لا وجود لها! الشخصية هي “شرلوك هولمز” Sherlock Holmes، رجل الشرطة أو المُخبر السرّي الاستشاري، الذي كُتب عنه في كلّ طبعات “دائرة المعارف البريطانية” الرصينة، وهو الشخصية الخُرافية الوحيدة التي كتبت عنها الدائرة، إذ أنها تكتب عادةً عن أبطال حقيقيين، ولكنها رأت أن الكثيرين في أنحاء العالم ما زالوا يُصدّقون أن “شرلوك” شخصية حقيقية وُلِدت ولن تموت! وكان الطبيب “السير آرثر كونان دويل” قد ألّف روايته الأولى عن “شرلوك” وعرضها على عددٍ من الناشرين، لكنهم رفضوها مُدّعين بأن أحداً من القُرّاء لن يُعجَب بها أو يُقبِل عليها.. وأخيراً وافق أحد الناشرين على شراء حقّ نشرها، ودفع ثمناً لها خمسة وعشرين جنيهاً إسترلينياً، وأصدر الرواية في عام 1887، واستردّ ما دفعه أُلوفاً مُضاعفة فيما بعد. وقد أثارت السطور الأولى للرواية إعجاب القُرّاء ودهشتهم، وأصبحت منذ ذلك الحين جُزءاً من التُراث الأدبي العالمي، وألّف “دويل” ثلاث روايات أُخرى وستّ وخمسين قصّة قصيرة عن “شرلوك”، نُشرتْ وطُبعتْ بمُعظم لُغات العالم، ومنها اللُّغة العربية. وعندما أُصيب الكاتب بالملل من هذه الشخصية التي ابتدعها، قرّر التّخلص منها، فجعل “شرلوك” يموت أثناء عراك مع خصمٍ شرّير له في منطقة شلّالات “”راينباخ” في “سويسرا”. وبقي المُخبر السرّي ميّتاً عشر سنوات كاملة، لكن القُرّاء احتجّوا على غيابه، كما أن رصيد المؤلّف من المال في البنك انخفض، فاضطُرّ إلى إعادته للحياة وكتب: أنه في الحقيقة لم يمُت في الشلّالات، بل أُنقِذت حياته في اللّحظة الأخيرة! لقد جرتْ أحداث روايات “شرلوك” في بيته، رقم: 221B, Baker Street في “لندن”، وفي هذا العنوان يوجد الآن المقرّ الرئيسي لإحدى شركات المقاولات الكبرى. وتتلقّى هذه الشركة رسائل كثيرة على هذا العنوان من جميع أنحاء العالم، من أفراد يطلبون مُساعدة “شرلوك” في حلّ الغاز جنائية.. ولا يعرف هؤلاء أن هذا العنوان لم يكن في يومٍ من الأيام مقرّاً لرجل الشرطة، لأنه لا يوجد أصلاً رجل شرطة حقيقي بذلك الاسم، ولكن نظراً لكثرة الرسائل واستمرار انهمارها على بريد الشركة، فقد عيّنتْ سكرتيرة خاصة تقوم بالردّ على هذه الرسائل باسم “شرلوك هولمز”! وقد شُكّلتْ جمعيات في سويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة منذ أكثر من نصف قرن باسم هذا الشرطي، وتَصدر مجلّة باسمه في “نيويورك”، ومجلّة سنوية في “طوكيو” يرأسها أستاذ في التحليل النفسي تُترجم أعمال “دويل” وتُحلّل رواياته وقصصه. وقد بدأت احتفالات العيد المئوي بحفل عشاء أقامته جمعية “شرلوك هولمز” في مجلس العموم البريطاني لأول مرّة، وكانت الاحتفالات من قبل تُقام في أحد فنادق “لندن”، وأقيمت حفلات مشابهة في “نيويورك” و”لوس أنجلس”، وارتدى أعضاء الجمعية الإنجليزية ملابس العصر الفيكتوري التي كان يرتديها الإنجليز في في حياة “شرلوك” وزاروا شلّالات “راينباخ” والمتحف الشهير في “سويسرا” الذي أقامه ابن المؤلّف. وفي هذا المتحف توجد حجرة استقبال ومكتب؛ على غرار الحجرة التي كان يجلس فيها “شرلوك” في “لندن” ويستقبل فيها زبائنه الراغبين في استشارته. وفي تاريخ الأدب الإنجليزي، يٌمكن إقامة عشرات الاحتفالات بميلاد شخصيات كثيرة، ولكن “شرلوك” فقط هو الذي لقي التكريم، فهو البطل الأدبي الخيالي الوحيد الذي احتفلت به “بريطانيا” عام 1987. وقد قيل الكثير عن الأسباب التي دعت بريطانيا لذلك الاحتفاء، ولكن الناس لم يُجمِعوا على سبب واحد؛ فقد قيل إن الشعب الإنجليزي يحنّ إلى العودة إلى الماضي المجيد، يوم كانت “بريطانيا” تحتلّ أجزاءً كبيرة من العالم، وامبراطورية لا تغيب عنها الشمس في عصر الملكة “فيكتوريا”. ولعل السبب الحقيقي وراء هذا كلّه، أن هذا الحُبّ “لشرلوك” يُنعش السياحة في “بريطانيا”، فالجمعية الإنجليزية تُنظّم احتفالات يزور خلالها الأعضاء المنطقة التي أقام فيها “شرلوك” عندما جاء إلى “لندن” للمرّة الأولى، وكذلك زيارات مُماثلة لكلّ مكان تحدّث عنه المؤلّف في رواياته، وذهب إليها رجل الشرطة ليبحث عن لِص أو مُجرم. فعلى الرغم من أن الشخصية خيالية، إلا أن أكثر المواقع حقيقية، وذلك لأن إحدى نُقاط قوّة المؤلّف كانت في براعته في وصف مدينة “لندن” ومعرفته التفصيلية لأحيائها وشوارعها ومعالمها، مما جعل المُعجبين يحرصون على زيارة تلك المواقع التي ذُكرت في الكُتب واستُخدِمت لاحقاً في الأفلام.