انطلقت السينما المصرية مع بدايات السينما العالمية وكانت البداية جريئة وقوية أو صاروخية ، حيث تبنت السينما تجسيد عدد لا يستهان به من الروايات لكتاب محليين وعالميين، وحظي الجمهور بمتعة غير منقطعة بعد ازدهار صناعة السينما ووجود نجوم يشار إليهم بالبنان، لكن ذلك لم يكن كافياً كما يبدو لصناعة ذوق خاص أو لنقل ذائقة تفهم الفن وتميزه لدى المتلقي المصري والعربي على حد سواء ، والذي بدأ يتعامل مع السينما مع مرور الزمن وتردي المنتج السينمائي كواحد من منافذ التسلية الأسبوعية، فأصبحت مشاهدة الأفلام شكل من أشكال “الفسحة” للجميع مما دفع شركات الانتاج لبذل جهد أكبر في صناعة أفلام التسلية فيما بعد، تلك النوعية المسلوقة من الأفلام التي غايتها الأهم دغدغة المشاهد وإضحاكه أو استفزازه عاطفياً بضخ عدد من أفلام النهايات السعيدة أو الحكايات المبتذلة، حتى أصبح الجمهور يقرن ما بين التسلية والمشاهدة السينمائية، و أستثني من ذلك عدد من المهتمين بالسينما والعاملين عليها أو الفئة المثقفة أو ما تسمى بالنخب.. لهذه الأسباب وغيرها واجه صناع فيلم (الست )هجوماً شرساً في الأيام الماضية حتى قبل عرضه على شاشات السينما والذي أدت فيه “منى زكي” دور الست وأخرجه “مروان حامد” وكتب الفيلم “أحمد مراد”. وعطب الذائقة الذي أصاب الكثيرين في زمن الترند و السرعة والفوضى هذا هو ما يجعل من بذل الجهد من أجل عمل جيد مجازفة مكلفة جداً أحياناً، وبغض النظر عن كوني عاشقة للست “أم كلثوم” حتى النخاع إلا أننا بحاجة لبعث هذا الإرث وصناعة سينما حقيقية منه، من قصص الكفاح والموت ومحاولات البقاء، والطبقية والحالة الاجتماعية والسياسية والموهبة وقبل ذلك الإنسان كما هو، وتأثير كل ذلك عليه في محاولة للتوثيق والسرد معاً، سرد الأشياء كما هي لا كما نريدها، وهذا ما قام به صناع هذا العمل العظيم.. بسرد حكاية الست على هيئة ومضات سريعة صنعت دهشة بصرية تكاتفت فيها كل عناصر الصناعة السينمائية لتخلق من الفيلم تحفة فنية من روائع السينما المصرية على الإطلاق، الفيلم يفتح باباً لاستحضار حيوات الكثير من العظماء من خلال السينما أو الدراما مثل “أحمد رامي” و”القصبجي” وغيرهم، و هناك الكثير لقوله عن فترات مليئة وغنية بالأحداث والتحولات البشرية والاجتماعية والسياسية قبل ذلك، فترة لم تغير وجه الحياة في مصر وحسب بل العالم كله، لذلك اقول كم من التصفيق يلزم “مروان حامد” ليخرج لنا أفلاماً كفيلم الست .. تغذية بصرية وسمعية ونقل لثقافة مغيبة تماماً عن هذا الجيل الذي وجد نفسه أمام الموسيقى السريعة والأفلام السريعة وحياة كل ما فيها سريع الذوبان. تجلت “منى زكي” وهي تؤدي دور العمر وهي تصور الست إنساناً حقيقياً يغضب ويثور يحب ويكره، لا ملاكاً صامتاً خُلق للغناء فقط، والست حالة لا يمكنك إلا أن تجد نفسك مندهشاً غاية الاندهاش حين تراقب كيف خرجت من حياة البلد والبدائية إلى القصور والرفاهية، ولم يكن ذلك سهلاً كان الثمن تلك الطفولة القاسية، وذلك الصبا المدفون تحت العقال والجلباب الذكوري، وذلك الشباب الذي شوهه الخذلان، لترتفع درجات ودرجات حتى تصبح طفلة الأرياف التي يهتف لها الجميع وينادي باسمها الجميع، غدت سيدة الغناء، حتى تلاشت صورها أمام عينيها ولم تعد تجد في المرآة سوى صورة واحدة لإمرأة تغني لم تستطع أن تكون أماً، ولم تستمتع بدفء العائلة، ولم يتسع الوقت في حياتها إلا لأم كلثوم التي تُغني وكم كان هذا كافياً للخلود، فقد كان الغناء تذكرتها إلى الأبدية. أما فنياً فالفيلم لا يتعامل مع أم كلثوم كمخلَّد أسطوري فقط، بل كشخصٍ بشري له نقاط قوة وضعف ومخاوف وصراعات داخلية يتجاوز العمل صورة «الرمز» المكرَّسة في الذاكرة الشعبية ليطرح رحلة نفسية عميقة لشخصية معقَّدة، ما يمنح العمل بعدًا نفسيًا ووجوديًا، إخراج “مروان حامد” يعتمد سردًا غير خطي ينطلق من مشهد قوي في بداية الفيلم وهو حفلة أوليمبيا في باريس، ثم يعود إلى مراحل الحياة الأولى في الريف والقاهرة، و هذا الأسلوب يخلق توترًا دراميًا بصريًا و يعطي للمشاهد فرصة الربط بين الماضي والحاضر بأسلوب ذكاء بصري، يستخدم الأبيض والأسود في بعض الفلاش باك لتحديد الأبعاد الزمنية والنفسية، وكأن الفيلم يتناول الصراع بين الطموح والهشاشة الإنسانية، و تأثير التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر على حياة الفنانة العظيمة ، لحظات التحدي والنجاح والفشل، مع إبراز التوتر بين الأنا الطموحة والذات المتأملة، هذا يمنح الفيلم بعدًا فلسفيًا إذ يُظهر كيف يمكن لشخص واحد أن يصبح رمزًا ثقافيًا مع الاحتفاظ بإنسانيته، الصورة في «الست» لا تُعامل “أم كلثوم” كشخص داخل العالم بل كـمركز ثقل بصري فغالبًا ما توضع الشخصية في منتصف الكادر أو أعلى التكوين، و الكاميرا تميل إلى اللقطات الثابتة أو الحركة البطيئة، ما يمنح إحساسًا بالهيبة والسيطرة هذا الاختيار يعكس فكرة أن أم كلثوم ليست فقط داخل التاريخ بل أن التاريخ يدور حولها، و في مشاهد الغناء تجد اللقطات قريبة جدًا للوجه، خصوصًا العينين أما في المشاهد الإنسانية فاللقطات أوسع حيث تُظهر الفراغ حولها فحين تغني هي الكل أما حين تكون إنسانة تبدو وحيدة و محاطة بالصمت والمسافات ، وهذا تناقض بصري ذكي بين الأيقونة والمرأة. الموسيقى التصويرية لا تنافس صوت “أم كلثوم” بل تظهر في المساحات الصامتة تعمل كـصوت داخلي لا كحدث خارجي في لحظات التردد أو الانكسار الموسيقى خافتة، أحيانًا شبه غائبة يُترك المجال للصمت، وهو اختيار شجاع و كأن الصمت هنا يقول: حين تصمت أم كلثوم… يصبح الصمت نفسه موسيقى، الفيلم يعتمد على ألوان دافئة ومطفأة في البدايات ألوان أعمق وأثقل مع التقدم الزمني كالأسود والكحلي والأخضر الداكن و كلما كبرت الشخصية ثقلت الألوان و كلما زادت الشهرة قلّ الضوء، الشهرة هنا ليست ذهبية بل معتمة اللون الأسود في الملابس، الخلفيات، الظلال لا يرمز فقط للأناقة بل للصرامة، الانضباط، والانعزال، أما الإيقاع ليس تجاريًا فالمشاهد طويلة هذا قد يزعج بعض المشاهدين، لكنه يخدم فكرة أننا هنا لا نشاهد قصة… بل نعيش مزاجًا. أما الإخراج فلا يُقدّس “أم كلثوم” ولا يُسقطها، لا ملائكية ولا فضائحية بل يضعها في منطقة العظمة التي تتطلب قسوة على الذات وعلى الآخرين، و الفيلم بصريًا منحاز لفكرة النجاح يعني بناء جدار حول النفس وكل جدار يحمي… ويعزل في آن واحد! أما عن أداء “منى زكي” الذي أثار جدلاً واسعًا حتى قبل العرض نفسه، لأن الشخصية التي تجسّدها رمز فني عظيم وله حضور قوي في وجدان الملايين و هذا النوع من الأدوار يعتبر من أصعب ما يمكن أن يقدّمه ممثل لأن هناك توقعات عالية جداً من الجمهور والنقاد، الأغلبية ركّزوا على نقطتين أساسيتين، الجوانب الشكلية النقد هنا لم يَرَ تشابهًا كافيًا بين منى زكي وأم كلثوم، وهو ما جعله موضوعاً بارزاً في النقاشات، و الجوانب التعبيرية والوجدانية على الرغم من اختلاف الشكل، فإن الأداء يعتمد أكثر على القدرة على تمثيل الدوافع والمشاعر، وليس مجرد المحاكاة الشكلية وهذا ما أشادت به بعض الأصوات النقدية، لكن “منى زكي” كرّست أكثر من عام للتحضير للدور، بما في ذلك تدريبات على الحركة، الوقوف على المسرح و الحضور الصوتي ونبرة الكلام، رغم أن صوت الغناء المستخدم في الفيلم ليس صوتها الفعلي، و هذا النوع من التحضير يشير إلى أنها لم تكتفِ بتقليد الشكل، بل حاولت التغلغل في الحالة النفسية والعاطفية للشخصية، وهو ما يعد نقطة قوة في التمثيل الدرامي، لكن منى لم تؤد الدور بشكل عادي بل برأيي كان أداءها استثنائياً فقد قدّمت شخصية معقدة بصدق وقوة، وهناك تقدير لكونها قادرة على حمل الفيلم تقريبًا على عاتقها، ما يميّز أداء منى زكي في هذا الدور هو أنها لم تُحاول فقط أن تشبه أم كلثوم في الشكل، بل سعت إلى التعبير عن شخصيتها الإنسانية المعقدة القوة، الشك، الالتزام، والصراع الداخلي. هذا توجه نقدي وفني مهم في التمثيل السردي للسير الذاتية، أداء “منى زكي” في الست يُعدّ محطة مميزة في مسيرتها الفنية، وتحفة درامية على مستوى تمثيلي لأن التحضير العميق للدور والاندماج في الشخصية كان واضحًا على الشاشة، و قدرتها على نقل المشاعر وتحمل ثقل شخصية أيقونة ثقافية أثبتت موهبتها وتنوعها كممثلة محترفة، و رغم الجدل حول الشكل، يظل أداؤها عاملًا مؤثرًا في قبول الفيلم وتجاوبه مع الجمهور والنقاد. الفيلم من إخراج المخرج: “مروان حامد” و كتابة السيناريو والحوار “لأحمد مراد” ، وبطولة “منى زكي” في دور (أم كلثوم)، الفيلم أثار تفاعلًا واسعًا على منصات التواصل قبل وبعد عرضه و حقق نجاحًا في شباك التذاكر، محققًا ملايين الجنيهات خلال الأيام الأولى من عرضه كما تلقى إشادة من شخصيات سينمائية عالمية أبدى بعض النقاد والمهتمين تحفظات حول مقاربة السيرة والأداء، مما أثار نقاشًا فنيًا وثقافيًا في الساحة السينمائية المصرية والعربية، وكم أتمنى لو يتم تناول شخصية الشاعر “أحمد رامي” درامياً أو سينمائياً، والذي كان من أهم روافد إرث (الست) العظيم.