حين يتحدث الواقع.
شهد القطاع العقاري خلال السنوات الأخيرة جهوداً كبيرة لتنظيمه وتطوير أدواته، ولعل من أبرز تلك الجهود إطلاق منصة “إيجار” التي أسهمت بفاعلية في ضبط التعاملات وتوثيق العقود إلكترونياً، سواء السكنية أو التجارية، وما زالت تقدم خدمات جليلة تستحق الإشادة. غير أن الواقع الميداني يكشف عن جوانب تحتاج إلى معالجة حتى تكتمل الفائدة وتتسق التجربة مع احتياجات القطاع بكل تنوعه. فمن أبرز الإشكالات القائمة إلزام المستأجرين بالدفع الإلكتروني في العقود السكنية، في حين تبقى العقود التجارية أكثر مرونة بإتاحة الدفع اليدوي أو الإلكتروني. هذا التباين أدى إلى صعوبات ميدانية، إذ يرفض كثير من الملاك توثيق العقد أو تسليم المفتاح قبل استلام الإيجار من خلال الوسيط، بينما تعتمد منشآت إدارة الأملاك على التحصيل عبر التحويل للمكتب لا عبر التحويل المباشر للمالك. ومن هنا تبدو الحاجة واضحة لجعل الدفع الإلكتروني خياراً لا إلزاماً، على أن يتولى المكتب العقاري المعتمد استلام الأجرة وإصدار سندات القبض الالكترونية وتحويل المبالغ للمؤجر، بما يحقق مرونة أكبر ويحفظ حقوق الأطراف كافة. ومن الإشكالات التي تُعد جديرة بالمراجعة تجديد العقود مباشرة من منصة “إيجار” دون المرور بالوسيط العقاري، الأمر الذي يؤدي أحياناً إلى تجديد العقود رغم انتقال ملكية العقار، فيجد المالك الجديد نفسه ملزماً بعقد لم يوافق عليه، ويجد المستأجر نفسه أمام التزام لا تنطبق عليه شروط النظام. وهذه ثغرة يمكن سدّها بسهولة بحصر تجديد العقود المتجددة تلقائياً عبر المنشآت العقارية المعتمدة، لأن الوسيط هو الأعلم بحال العقار وبقاء المستأجرين فيه من عدمه. كما يلاحظ الوسطاء أن الاتصال بالرقم الموحد 199011 لرفع شكوى تقنية يتضمن في كل مرة تكراراً مزعجاً للأسئلة ذاتها، إذ يطلب الموظف بيانات الوسيط كاملة مثل رقم الهوية وتاريخ الميلاد والسجل التجاري وتاريخ انتهائه، رغم قدرة النظام تقنياً على إظهار هذه المعلومات تلقائياً بمجرد ورود الاتصال من الرقم المسجل للمنشأة. وهذا التكرار لا ينسجم مع روح التحول الرقمي ولا مع مستوى الخدمة المنشود، ويمكن تجاوزه بتفعيل خاصية التعرف التلقائي على بيانات المتصل، بما يسرّع الإجراءات ويحسّن التجربة. ويضاف إلى ذلك أن شحن المحفظة المالية في المنصة لا يسمح بتحديد مبلغ مخصص، وإنما يفرض مبالغ جاهزة وخيارات محدودة — بل إن بعضها مبالغ فيه — وهذا يستدعي إعادة التصميم بما يتيح للمستخدم تحديد المبلغ يدوياً دون قيود. وتبرز كذلك إشكالية تعاني منها منشآت إدارة الأملاك، تتمثل في أن مبالغ الإيجار التي يسددها المستأجر عبر منصة “إيجار” تصل إلى حساب المنشأة دون أي بيان يوضح اسم المستأجر أو رقم العقد، بل تأتي بتحويل لا يحمل سوى رقم مرجعي يخدم المنصة وحدها ولا يخدم أعمال المطابقة المالية. وهذا القصور يضاعف الجهد والوقت المطلوبين لفرز العمليات، خاصة مع تعدد الوحدات وتنوع المستأجرين، الأمر الذي يجعل إدراج بيانات أساسية مثل رقم العقد واسم المستأجر ضرورة لا خياراً لضمان وضوح التعاملات ودقة السجلات. ومن الملاحظ كذلك أن بعض موظفي “هيئة العقار” و”إيجار” يمتلكون خبرات نظرية دون خبرة ميدانية، مما ينعكس أحياناً على جودة الإجراءات والمتابعة. ولهذا يبدو من الضروري الاستعانة بخبراء عقاريين ميدانيين كمستشارين، وتطوير برامج تدريب عملي تغلق الفجوة بين المعرفة النظرية والتطبيق الواقعي. ورغم أن النظام يمنع الوافدين من ممارسة الوساطة العقارية، إلا أن سيطرتهم على عمليات البيع والشراء ما تزال قائمة، مستفيدين من عدم إلزامية عقد البيع الإلكتروني، حيث تتم العمليات في كتابات العدل والسجل العقاري أو لدى الموثقين دون المرور بالقنوات النظامية. ويمكن معالجة ذلك بإلزام البائع والمشتري بعقد بيع إلكتروني موثق عبر منصة الهيئة، وعدم إتمام الإفراغ دون هذا العقد، لأن عقود الوساطة الحالية لا تشكل اتفاقاً نهائياً يربط الطرفين ولا يتيح نقل الملكية سواء عبر كتابات العدل أو السجل العقاري أو الموثقين. كما تبرز إشكالية ربط الذمة المالية للكهرباء بالمستأجر؛ إذ ينتهي الربط تلقائياً بانتهاء العقد الإلكتروني حتى لو استمر المستأجر في العقار بعقد جديد، فتعود الذمة المالية للمالك وتصدر فواتير لا تخصه، بينما يحصل المستأجر عند كل تجديد على رقم حساب كهرباء جديد يربك المتابعة والسداد. والأقرب للصواب أن يكون فك الارتباط مسؤولية المستأجر مباشرة من تطبيق الشركة السعودية الكهرباء، لأنه الأحرص على إنهاء مسؤوليته عند مغادرته للعقار، لا أن يتم ذلك تلقائياً دون مراعاة التجديد. إن منصة “إيجار” مشروع وطني رائد قطع شوطاً كبيراً في تنظيم التعاملات العقارية، وما طُرح هنا ليس إلا مساهمة مني لتطويرها من واقع التجربة الطويلة في الميدان، فحين يتحدث الواقع تتضح الفجوات وتظهر الحاجة إلى حلول مرنة تستجيب لطبيعة العمل العقاري وتشعبه، وتضمن العدالة والوضوح وكفاءة الخدمة لكل الأطراف.