«من الخيال إلى الشاشة» في جامعة الملك عبدالعزيز..

الاسم الذي أضحى رمزيةً تتجاوز الشعار.

من موقعي كشاهد على رحلة الإبداع السينمائي الطلابي، ومن خاض تجربة المهرجان عن قرب في مواسمه المتوالية؛ أكتب ما أراه - قراءةً للمشهد من الداخل، بدءًا بفكرة «من الخيال إلى الشاشة»، التي اختيرت شعارًا لمعرض تفاعلي ضم محطات للتجارب الطلابية ضمن حِراك مهرجان الأفلام السينمائية الطلابية لعام ٢٠٢٥، الذي نظمته كلية الاتصال والإعلام بجامعة الملك عبدالعزيز.. يقول المخرج لينش: «بمعنى ما، كل فيلم هو دخول إلى أحلام شخص آخر». وفي هذا المهرجان الطلابي، ندخل إلى مئة وسبعين حلمًا، مئة وسبعون عالمًا متخيّلًا صنعه طلبة قرروا أن يحوّلوا رؤاهم الداخلية إلى صور متجسدة على شاشة. هذا الاسم الذي تجاوز كونه عنوانًا لمعرض طلابي في مهرجان الأفلام السينمائية الطلابية في دورته ٢٠٢٥، ليصبح استعارةً لرحلة جيل طلابي من صُنّاع الصورة في رحاب جامعة الملك عبدالعزيز، والتي اجتمعت فيه ١٧٠ تجربة طلابية سينمائية موزعة على مسارات متنوعة قادمة من مختلف الجامعات… مئة وسبعون محاولة للتحدث بلغة الصورة، مئة وسبعون صوتًا ناشئًا يحاول أن يجد طريقه إلى الشاشة عبر عدسة طالب يتعلم للتو كيف يروي العالم بطريقته هو، يتعلم أولاً كيف يرى العالم بعينيه، ثم كيف يجعل الآخرين يرونه كما يراه، وهذا بالضبط ما نراه في هذه الأفلام الطلابية - رحلة تعلّم الرؤية، ومحاولة مشاركتها مع العالم… لا أكتب عن المهرجان بوصفه حدثًا عابرًا يُنجز في دورته الطلابية ثم ينتهي، بل عن تلك التظاهرة التي بدأت كتجربة أكاديمية لطالب خجول اكتسب جرأة المحاولة من إلهام الصرح الذي ينتمي له وبكل المقومات التي يكسبها له من يقود هذا الصرح، فإذا بها تتحول - على مرّ دورات متعددة من محض تجربة إلى فضاء ثقافي يُعيد تعريف علاقتنا بالسينما الطلابية ذاتها، ومعها، يُعيد السؤال: ماذا يعني أن يحلم الطلبة بفيلم؟ وماذا يعني أن يشهده متجسدًا على شاشة؟ إن «من الخيال إلى الشاشة» ليس مجرد شعار تسويقي وخطاب إعلامي بارع اختارته كلية الاتصال والإعلام للتعبير عن رؤيتها تجاه احتضان الأفكار الطلابية وتمكينها من الفكرة إلى التجسيد، إنه خارطة طريق فلسفية لجيل يحاول الآن أن يصنع سينماه الخاصة بدعمٍ موثوق وحوافز تنبع من أولى محطاته في الاكتساب، من المؤسسة نفسها، بل من كلية الاتصال والإعلام في جامعة الملك عبدالعزيز في ظل قيادتها ورؤيتها الاستراتيجية في نهج التمكين والإلهام والتأثير، ما لمسناه في الأفلام الطلابية - محاولة لإعادة رؤية العالم، ومشاركة هذه الرؤية الجديدة مع الآخرين، فالخيال هنا ليس الحلم الساذج لطالب مبتدئ، بل هو المساحة الأولى التي ينطلق منها الطالب - بكاميرته البسيطة أو بهاتفه الذكي - ليقول: أنا هنا، ولديّ ما أقوله، والشاشة في هذا المضمار ليست مجرد سطح عرض، بل هي المحكّ الحقيقي حيث تُختبر الأفكار، وتُواجه الأحلام بأعين الجمهور والنقّاد، ورواد المكان الذين وثقوا في البدء بهذه المخيلة.. المتتبع لمسارات المهرجان الأربعة - الروائية القصيرة، الوثائقية، الكرتونية، مسار الذكاء الاصطناعي - يدرك أن التنوع هنا ليس تنوعًا شكليًا فحسب، بل هو انعكاس لتفاوت الرؤى وتعدد الأصوات، والاهتمام الدقيق باهتمامات كل مخيلة،كل مسار يحمل وجدانًا مختلفًا؛ الروائي يبحث عن العُمق في الحكاية، الوثائقي يخلد الحقيقة وينتصر للتفاصيل، الكرتوني يخلق عوالم موازية ، والذكاء الاصطناعي - هذا الضيف الجديد المثير للجدل - يطرح أسئلة وجودية عن مستقبل الإبداع ذاته، وفي هذا التنوع، ثمة رسالة واضحة: السينما ليست قالبًا واحدًا، بل هي أشكال متعددة من التعبير، كل منها يحمل شرعيته الفنية وأدواته الخاصة… وهذا ما آمنت به منذ البدء حاضنة كل هذه القصص الطلابية. إن المهرجان لمن حضره ولمن أدركه ليس مجرد عروض متتالية، وليست ساحة للترفيه، بل هو حوار ممتد، الجلسات النقدية، والورش التدريبية التي قُدّمت، المحطات التفاعلية، التجربة الميدانية، تُخبرنا بأن المهرجان يوضح درسًا مهمًا: السينما ليست بالعرض وحده، بل بالنقاش، بالتفكيك، بإعادة البناء، وفي هذه الانتقالات يكتشف المبدع الناشئ أن كل إطار يحمل قرارًا فنيًا يستحق التأمل، وحين يدرك الطلبة وقوف أفلامهم أمام لجنة نقدية من النخبة ناقشت خياراتهم الإخراجية ورؤيتهم الدرامية، فهم لا يتلقّون درسًا بقدر ما يخوضون تجربةً تُعيد تشكيل فهمهم للفن ذاته. وهنا - وأقولها بكل صراحة - تكمن قيمة المهرجان الحقيقية ليس في الأفلام الفائزة (مع أهميتها)، بل في تلك اللحظات التي يُدرك فيها الطالب أن فيلمه ليس منتهيًا، بل قابل للتساؤل، للنقد، للتطوير، للرؤية مجددًا، هذه هي البداية الحقيقية لصانع الصورة: حين يتعلّم أن الفن ليس إجابة، بل سؤال مفتوح…. وشاشة لن تتوقف عن استيعاب رؤيته، بل تكمن أهمية هذه التظاهرة أكثر في حضورها المنتقى من نخبة الصناعة بين التخصص والسوق السينمائي، والداعمين من أهل التجربة والرؤى، طلبة من الكليات الأخرى، مهتمون بالسينما من خارج الجامعة، أساتذة ونقّاد، هذا التنوع يُشير إلى أن المهرجان لم يعد حدثًا داخليًا بل تظاهرة ثقافية تتجاوز أسوار الجامعة. إذًا لماذا يأتي كل هؤلاء؟ ولمَ هذا الصيت الحيوي لهذه التجربة؟ لأن المهرجان يُقدّم ما لا نجده في الصالات التجارية، وهذه الأفلام الطلابية، بكل نضارتها وبراءتها السردية، تُعيدنا إلى تلك البدايات - إلى اللحظة الأولى حين يُمسك صانع الصورة بالكاميرا ويقرر أن يروي، القصص الطلابية تمنحنا فرصة أن نرى السينما بعين مندهشة - كما لو كنا نكتشفها للمرة الأولى، والجمهور - على عكس ما نظن - لا يبحث دائمًا عن الكمال، بل يبحث عن الأصالة، وهذه الأفلام الطلابية تحمل شيئًا نادرًا: وهو صدق التكوين، جمهور هذه التظاهرة يدرك أن الأصالة حين تمتزج بالقيمة الجمالية، تُنتج تجربة سينمائية لا تقاس بمعايير الإنتاج التجاري، بل بمعايير الصدق الإبداعي، وهذا ما لمسه الحضور في بنية المهرجان ذاتها: أصالة الطرح النقدي في الجلسات، العمق في التفاصيل المرافقة، التجربة التعليمية في الورش - ثلاثية تُعيد تعريف ما نتوقعه من مهرجان طلابي، أضحى أكبر من ذلك، ولا بد من وقفة تأملية عند مسار الذكاء الاصطناعي، الذي ميّز هذه النسخة من المهرجان، هذا المسار الذي أثار جدلًا واسعًا في الصناعة نفسها وفي كل الميادين، البعض رأى فيه خيانة للفن التقليدي، والبعض الآخر رأى فيه فرصة لتوسيع حدود الإبداع، وأنا، من موقعي أرى فيه رسالة مفادها أن المؤسسة بمخرجاتها لا تهاب المستجدات بل تواكبها وتنسجم مع متطلباتها وتهيئ لها التجارب وتطلق لها الحاضنات، حتى لو كان هذا المستقبل مُقلقًا لدى البعض وعرضة للكثير من التساؤلات، وبناءً عليه؛ فإن الأدوات الجديدة تفتح أبوابًا جديدة للإبداع، والفنان الحقيقي هو من يعرف كيف يستخدمها لخدمة رؤيته، وهذا ما نجده حاضرًا حين نتأمل أفلام مسار الذكاء الاصطناعي التي استخدمت الذكاء الاصطناعي - سواء في المونتاج، أو في توليد المشاهد، أو حتى في كتابة السيناريو - أثارت أسئلة أعمق من مجرد هل هذا فن؟ أسئلة حول: من هو الفنان؟ ما هي الأداة؟ وأين تنتهي الآلة ويبدأ الإنسان؟ وهل تتعارض التقنية مع القيمة؟ وهذه - بحق - أسئلة تستحق أن تُطرح وتُختبر في مهرجان طلابي، لأنه المكان الوحيد الذي يسمح بالتجريب دون خوف من التساؤلات. في النهاية، فإن فكرة «من الخيال إلى الشاشة» لم تقتصر على كونها مجرد حالة مؤقتة، أو محطة مرور مدهشة، لقد تحوّلت إلى رمزية ثقافية لجيل يسعى لتأسيس خطابه البصري في مشهد سينمائي مكتظ بالأصوات المتنافسة، وهذا - بحد ذاته - منجز يستحق التأمل لأصالة مشروعه، ولأنه يُعيد التأكيد على أن السينما، في جوهرها الفلسفي، ليست مجرد تقنية إنتاجية أو صناعة استهلاكية، بل هي فعل تخييلي يتحول إلى صورة مضيئة على شاشة يشعر صاحبها أنه بلغ أوج الإنجاز في كل لقطة. شهدنا في هذا المهرجان الطلابي، محاولات كتابة أولى - متعثرة أحيانًا، جريئة أحيانًا أخرى - لكنها تحمل في ثناياها بذور مشروع سينمائي يتشكّل، وانطلاقة تستهدف الضوء، إنها لحظة تكوينية لجيل يرفض الاكتفاء بموقع المتلقي، ويصرّ على اتخاذ موقع المُنتج للخطاب البصري المعاصر.. وفي النهاية، وكما أن لكل فيلم ذروته الدرامية، فإن ذروة هذه الخيالات الطلابية تكمن في تجسيدها على الشاشة - بفضل الإيمان المؤسسي بجدوى التجريب، وبفضل فضاء أكاديمي يُتيح للطالب أن يُخطئ ويتعلّم ويُعيد المحاولة. لا حدود لهذه الرمزية، ما دامت المخيلة الإبداعية حيّة، وما دامت أدوات الإنتاج السينمائي في متناول من يؤمنون بجدوى الرواية المرئية، ما دام هناك من يجرؤ على تحويل التخييل إلى شاشة، فإن الممارسة السينمائية ستظل فضاءً حيويًا للتجريب والتأسيس. ونحن، بوصفنا متأملين للمشهد علينا أن نحرس هذه المساحة وأن نُدرك أن كل منجز سينمائي بدأ يومًا ما كتجربة أولى في فضاء أكاديمي، حيث المحاولة جزء أساسي من عملية التعلّم، والحلم جزء مشروع من فعل الإبداع. إننا حين ننظر إلى رمزية «من الخيال إلى الشاشة»، فإننا لا نشيد بمهرجان طلابي وجهود متواصلة فحسب، بل نحتفي بولادة جيل طموح من الرواة البصريين الذين سيكتبون - على الشاشات - فصولًا جديدة من حكاية السينما السعودية بدأت من صرح أكاديمي ينتهج التمكين، يُلهِم ويدعم ويواصل الالتزام بذلك كحاضنة لمسارات الإبداع والتجربة الطلابية بشكل عام.​​​​​​​​​​​​​