لماذا نعيد فتح ملفات ثقافية تجاوزها الزمن؟
في الأسابيع الماضية ، ورغم التسارع الهائل في الإنتاج الثقافي والتحوّلات الاجتماعية، ما زالت بعض النقاشات الثقافية في (السوشال ميديا) تحديداً، تعود إلى نقاط يفترض أننا تجاوزناها منذ عقود طويلة. فبين حينٍ وآخر يعيد المشهد الثقافي مواضيع استهلكت منذ سنوات ، مثل الجدل الذي تجدد مؤخرًا حول رواية «بنات الرياض» صدرت في 2005، أو كتاب «حكاية الحداثة» الذي صدر في 2004 ، وكأن الزمن لم يمضِ، وكأن الأسئلة الجديدة التي يفرضها الواقع المعاصر غير كافية لإشغال النقاش العام. هذه الظاهرة ليست جديدة تمامًا؛ إذ تتكرر أيضاً في السياق الشخصي للمثقفين، حيث يستمر البعض في إحياء حساسيات قديمة تتعلق بالدعوات والفعاليات والاعتراف الثقافي، وهي ممارسات تعود جذورها إلى زمن المهرجانات التقليدية مثل الجنادرية وما شابهها وغالباً تأتي على هيئة الجملة المُبطنة في حواري كرة القدم : «لعّبوني ولا أخرّب»!. تفسير هذا الميل للعودة إلى الوراء يحتاج إلى النظر في ثلاثة عوامل رئيسية، العامل الأول هو الحنين الثقافي: ثمة شريحة من الجمهور تجد في إعادة مناقشة هذه الموضوعات نوعًا من الاستراحة من عبء التحديات الراهنة، أو محاولة لفهم الحاضر عبر استدعاء لحظات مفصلية في الذاكرة الثقافية. فنقاش الأعمال الجدلية القديمة يمنح إحساسًا بالألفة والقدرة على المشاركة، بخلاف موضوعات جديدة قد تكون أكثر تعقيدًا. أما العامل الثاني فهو غياب التصنيف التاريخي للمنجز الثقافي. فالكثير من الأعمال التي أثارت ضجة في وقتها لم تُستوعَب لاحقًا في سياقات نقدية واضحة، ولم تُقرأ كجزء من تطور طبيعي للفكر الأدبي والاجتماعي. ولذلك تبقى معلّقة بين الماضي والحاضر، تُستدعى كلما احتاج النقاش العام إلى “مثال جاهز” على الجدل الثقافي، حتى وإن كانت الأسئلة التي أثارتها في زمنها لم تعد تمثل إشكالاً اليوم. العامل الثالث يرتبط بـالبيئة الرقمية، وخصوصًا منصّات التواصل الاجتماعي، فالمنصّات بطبيعتها تُضخّم النقاشات التي تمتلك تاريخًا سابقًا من الجدل، لأن الجمهور يتفاعل معها بسرعة، وهي قادرة على خلق موجات عاطفية دون الحاجة إلى أرضية معرفية جديدة. وهكذا يتحول موضوع قديم إلى مادة قابلة للاشتعال مرة أخرى، حتى وإن كان الإرث النقدي قد تجاوزه منذ زمن. مع ذلك، فإن الإشكالية الأعمق لا تكمن في النقاش نفسه بقدر ما تكمن في الفرص الضائعة. فبدلاً من استثمار الطاقة الثقافية في مناقشة قضايا معاصرة ، مثل: تحولات القراءة الرقمية، مستقبل الإبداع في ظل الذكاء الاصطناعي، أو تحديات الصناعات الثقافية في العالم العربي ، ينشغل كثيرون بالعودة إلى سجالات فقدت جِدتها . إن الانغماس في الماضي، رغم قابليته للتفسير، قد يحرم المشهد الثقافي من تطوير أدوات جديدة وتحويل النقاش إلى قوة دفع نحو المستقبل. ختامًا، لا يعني تجاوز الماضي تجاهله أو تحييده، بل يعني وضعه في مكانه الصحيح: جزءًا من تاريخ الثقافة لا من حاضرها المزمن. وإذا أراد المشهد الثقافي العربي أن يتحرك بثقة نحو المستقبل، فعليه أن يعيد ترتيب سلّم أولوياته، وأن يفسح المجال للأسئلة الجديدة بدلاً من الدوران في حلقات قديمة اكتملت منذ زمن.