بين الرواية والتاريخ..

أسرار جديدة عن «فتنة جدة» عام 1858م.

حظيت أحداث عام ١٨٥٨ م في جدة باهتمام مؤرخين وأدباء، فقد كانت موضوعا رئيسا لروايتين على الأقل هما روايتا “ مقام حجاز” تأليف محمد صادق دياب، ورواية “فتنة جدة” تأليف مقبول العلوي. ويمكن فهمها تاريخيا من كتابين أحدهما كتاب المهندس محمد أنور مسلم نويلاتي “ جدة وعبقرية المكان” الذي أوضح بجلاء أن الأحداث كان لها أسبابها الإقتصادية الواضحة، أما الخلفية السياسية للأحداث فيمكن معرفتها تفصيلا من كتاب “ إدارة الحج إلى مكة “ وهو من تأليف الباحث مايكل كريستوفر لو، الذي يعمل في جامعة نيويورك - أبوظبي، وقد فاز كتابه بجائزة ألبرت حوراني من جمعية دراسات الشرق الأوسط في مدينة توسان بولاية أريزونا. عندما ضعفت الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، تطاولت عليها القوى الاستعمارية العالمية التي صار لها امتيازات في أراضى الشام وخاصة في لبنان وفلسطين، أكثر هذه الامتيازات كانت مخلة بسلطات الدولة العثمانية، أصبحت بريطانيا راعية للبروتستانت، وفرنسا راعية للكاثوليك وروسيا راعية للأرثوذوكس وخاصة في مناطق الحج المسيحي في القدس وما حولها. وقد شهدت بدايات القرن التاسع عشر ظهور السكك الحديدية والسفن البخارية، مما وفر مواصلات أفضل مقارنة بالسفن الشراعية والنقل البري عن طريق الحيوانات، سهلت هذه المواصلات طريق الحج إلى مكة، حتى أصبح حجاج الهند يشكلون ثلث الحجاج، وكذلك زاد حجاج الجزائر  المستعمرة الفرنسية آنذاك، وببدء نشاط قناة السويس فقد يسر الأمر طريق حجاج روسيا القادمين عبر البحر الأسود، وكان هذا جاذبا للقوى الاستعمارية التي تحكم البلدان الإسلامية المشار إليها وكذلك السلطات الهولندية التى تحكم أندونيسيا، بحيث بدأت هذه القوى تحاول التأثير على إدارة الحج، بريطانيا أخذت تدعي - بحكم عدد المسلمين في الهند الذين تحكمهم - بأنها تمثل الدولة الأولى الراعية للمسلمين في العالم، وفي محاولتها لإضعاف الدولة العثمانية راجت أحاديث عن عزم بريطانيا على التحالف مع شريف مكة بحيث يصبح خليفة المسلمين بدلا من الخليفة العثماني، أحد أهدافها من مد نفوذها على مكة اعتقادها أن عددا من المنشقين على حكمها في الهند يأوون إلى مكة، ومن هناك يؤلبون أهل الهند للثورة على بريطانيا، وهذا أيضا كان تفكير الهولنديين الذين يحكمون جاوه، وحيث إن قناصل هذه الدول كانوا يمنعون من الخروج من جدة إلى باقي أجزاء الحجاز فقد قامت القنصلية البريطانية بتعيين نواب للقنصل من مسلمي الهند ليتسنى لهم دخول مكة الممنوعة على غير المسلمين، وكان معظم هؤلاء تجارا استفادوا من نشاط التجارة بين الهند وأوروبا مرورا بجدة ومصر، كما زادت التدخلات الدولية بسبب نشوء أزمة مرض الكوليرا الذي انتشر من الهند إلى مكة ثم إلى مصر وأوروبا، ظلت بريطانيا تتهم ماء زمزم بأنه مصدر الكوليرا، وتتهم الدولة العثمانية بالتقصير، وأصبح هناك ما يشبه المجلس الصحي العالمي يجتمع في باريس لإدارة أزمة الكوليرا، وقد نجحت الدولة العثمانية في إقامة حجر صحي لحجاج الهند في جزيرة كمران، مما أثبت نجاعته في محاربة الوباء وأكد على كذب مزاعم بريطانيا التي تنفي أن تكون الهند مصدرا للوباء، إزاء هذه الضغوط على الدولة العثمانية اجتهد العثمانيون في إيصال الماء الصحي إلى مكة وجدة واستعانوا بالخبرات الأوروبية التى انتهت ببناء محطة تحلية مياه البحر الأولى في جدة.   بعد أن خسرت الدولة العثمانية كثيرا من الأراضي التى تحكمها في أوروبا، حاولت أن تقوي وضعها في الحجاز وإدارتها مركزيا حتى يتسنى لها الحفاظ على شرعيتها الإسلامية. وقد زاد هذا من أهمية جدة باعتبارها كانت منذ البداية تتبع إسطنبول مباشرة وأُلحقت بها “ولاية أثيوبيا” التي تضم مدنا تتبع العثمانيين في سواحل شرق أفريقيا منها ميناء سواكن وميناء مصوع. وفي ظل هذا الجو المحتقن بالصراع حدثت “ فتنة جدة” . منحت الدولة العثمانية في معاهدة بينها وبين بريطانيا عام ١٨٣٨ م امتيازات تجارية وقانونية في البحر الأحمر تشمل الإنجليز ورعايا إنجلترا في الهند، ومنحت تجارهم في الحجاز امتيازات ضريبية، بعد المعاهدة بقليل سيطر الإنجليز على ميناء عدن، كذلك أعطت المستأمنين من رعايا الدول الأجنبية حماية قانونية فلا يحاكمون أمام المحاكم المحلية بل في محاكمهم، وبقوانينهم، ولا يمكن اعتقالهم إلا بوجود ممثل للقنصلية. وهكذا زاد عدد التجار المسيحيين في جدة، ومُنحوا صلاحيات للاستيراد والتصدير، وتم إعفاؤهم من بعض الضرائب التي كان يدفعها الرعايا العثمانيون ومنهم تجار جدة، وفي عام ١٨٥٦م اعطى السلطان عبد المجيد مزيدا من الامتيازات، فأصبح للقنصلين الإنجليزي والفرنسي مكانة كبيرة في إدارة الأعمال في الحجاز، وأصبح لرعايا هاتين الدولتين وضع مميز مقارنة بالتجار المحليين، مما أدى إلى تذمر السكان. ثم تم منعٌ تجارة الرقيق في أراضي الدولة العثمانية، واستغلت السلطات البريطانية ذلك للإضرار بأغنياء الحجاز وتجارهم، وأصبح من حق أي عبد يصل إلي القنصلية البريطانية أن يستصدر وثيقة عتق، كما أصبحت السفن البريطانية تفتش السفن القادمة من أفريقيا وتصادر حمولتها من الرقيق. كانت تجارة الرقيق من أهم مصادر الدخل في الحجاز، ولذا رفض شريف مكة القرار وتظاهر الناس في مكة واشتبكوا مع القوات التركية وسقط ضحايا من الجانبين. كان مسلمو الحجاز عالمين بأساليب شركة الهند الشرقية للسيطرة على التجارة في الهند، وذلك من خلال بعض قادة الثوار الهنود. بدأت القنصلية البريطانية بأحداث تغييرات تؤدي إلى نشوء طبقة من التجار موالية لبريطانيا، فأصبحت تعطي بعض رعايا الدولة العثمانية نفس الامتيازات الممنوحة للأوروبيين، وأصبح هناك طبقة من التجار الهنود من رعايا بريطانيا في جدة، وبشكل مشبوه اختير أحدهم كبيرا للتجار وكان نائبا للقنصل الإنجليزي في نفس الوقت. الأمر الذي شكل إهانة لتجار جدة، ثم تم الإعلان عن شركة للسفن البخارية تحل محل السفن الشراعية القديمة المملوكة للتجار. وهكذا استطاعت شركة الهند الشرقية أن تنشئ طبقة برجوازية جديدة غيرت بيئة التجارة في جدة. وأصبح للقناصل أعمالهم التجارية الخاصة. عام ١٨٥٨م ، اشترى التاجر صالح جوهر السفينة “ إيراني”، وأخذ موافقة مكتوبة من والي مكة التركي على تسجيلها كسفينة عثمانية ورُفع العلم العثماني عليها، ذهب القنصل البريطاني فأنزل العلم و داسه، وأخذ  صاحبها التاجر معتقلا إلى سفينة عسكرية إنجليزية تقف في مواجهة جدة، وشهد تاجران أن السفينة كانت مسجلة كسفينة انجليزية في كلكتا من قبل، القانون الإنجليزي يسمح بمصادرة أي سفينة انجليزية تحول إلى ملكية دولة أخرى، رغم ثبوت شراء التاجر صالح جوهر لها، كما أن هذا التاجر مواطن عثماني لو حمل بعض الوثائق الإنجليزية بحكم أصله الهندي، أصر الإنجليز على مصادرة السفينة، فتجمع عدد من الناس أمام القنصلية البريطانية، شتمهم القنصل وهددهم بإطلاق النار، زاد هياج الناس وهاجموا القنصلية ومن فيها ثم انتقلوا إلى القنصلية الفرنسية فهاجموها . قُتل في الأحداث اثنان وعشرون، سُحبت جثثهم في الشوارع. رفض الكابتن بولين قائد السفينة العسكرية الراسية أمام جدة إخلاء الأوروبيين إلا بحضور الوالي العثماني من مكة، ثم تم دفن الموتى وإجلاء الأوروبيين، وظلت السفينة ترفع العلم العثماني. أصدرت الحكومة البريطانية أمرا للكابتن بولين الذي كان يقود سفينته إلى السويس بالعودة فورا إلى جدة، وأعطته صلاحية إنزال العقاب بالقتلة بالطريقة التي يراها مناسبة، ودعمته بسفينتين حربيتين أُخريين، كما أرسلت فرنسا سفينة عسكرية لتشارك في القتال، ودعت الحكومة الفرنسية إلى وضع جدة تحت إدارة مشتركة - فرنسية انجليزية - لضمان الحصول على التعويضات ومعاقبة القتلة. أمر السلطان العثماني بإنزال علم دولته عن السفينة وتشكيل لجنة تحقيق، ولكن القائد الإنجليزي بولين وجه إنذارا يهدد بقصف جدة بعد يومين إذا لم يُسلَم القتلة، انتهى وقت الإنذار وبدأ القصف العشوائي، فلم ترد الحامية التركية رغم مدافعها الضخمة القائمة على أسوار جدة، كما تم إحراق المراكب المدنية الموجودة في ساحل جدة بما تحمله من أرزاق. حضر والي الحجاز من مكة ومعه بعض الوجهاء ، قابلوا الكابتن بولين، وذكروا أنهم لا يستطيعون إعدام القتلة لأن هذا يحتاج إلى أمر من السلطان، ولكنه أقنع بولين بإيقاف القصف مؤقتا حتى تتاح الفرصة للحجاج لمغادرة جدة، عاد القصف بعد أسبوع، وخلال القصف جاء مندوب من السلطان العثماني يحمل تعليمات بإعدام أحد عشر متهما في مكان حدده الكابتن بولين أي على أحد الشعاب المرجانية بحيث يمكن رؤية الإعدامات من المدينة ومن السفن التجارية، وكان هدف الإنجليز إعطاء درس لكل العالم الإسلامي يصل عبر الحجاج، خاصة وأن الإنجليز كانوا يعتقدون أن الأحداث لها علاقة بثورة الهند على بريطانيا، وهو أمر يرجح الكاتب مايكل كريستوفر صحته بالقول إن ما حدث كان بناء على تحريض من المنشقين الهنود، وبعدها غادرت السفن الحربية إلى السويس.  لم تقبل الحكومتان الإنجليزية والفرنسية بما حصل وادعتا أن الإعدام قد تم ببعض الخدم والعبيد، وهم ليسوا المنفذين الحقيقيين، وعليه فقد تشكلت أربع لجان متتالية للتحقيق، وبعد انعقاد اللجنة الثالثة هددت الحكومة البريطانية باتخاذ إجراءات قاسية ضد جدة، وعاد التهديد باحتلال مشترك فرنسي ~ بريطاني للضغط على الدولة العثمانية. اللجنة الرابعة المكونة من مندوب بريطاني وفرنسي وممثل للدولة العثمانية انتهت الى أن الأحداث كانت مدبرة من قِبل السلطات العثمانية المحلية، فقد قام عبدالله آغا المفتش العام باستدعاء البعض إثر إنزال العلم ومن ضمن من حضروا الشيخ سعيد العمودي الذي استنهض التجار الحضارم، توجه المجتمعون إلى القنصلية بغرض إخافة القنصل الذي كان مستفزا فتطورت الأحداث إلى أعمال شغب، صدر الحكم بإعدام عبدالله أغا وسعيد العامودي ونُفي وسُجن آخرون.  وكذلك أًلزمت الحكومة العثمانية بدفع ديات القتلى الأوروبيين، وكذلك بدفع تعويضات باهظة فرضتها الحكومة العثمانية على السكان، مما أدي إلى هجرة البعض، ورفضت الحكومتان الأوروبيتان النظر في تعويض أهالي جدة جراء الدمار الذي أنزلته سفينة الكابتن بولين بهم، رغم مقتل أعدادً من الأسر وهدم منازل، وإغراق السفن.  يرى المؤلف محمد نويلاتي أن هذه الأحداث قد أدت إلى انعكاسات عديدة على كافة الإقليم، فقد اهتزت شرعية الدولة العثمانية باعتبارها حامية المسلمين، وظهر أنها تقدم مصالحها الخاصة مع أوروبا على مصالح كافة المسلمين، كما تأكد فشل شركة الهند الشرقية في تطويع جدة، فقد تم قصر صلاحيات القناصل على العمل الدبلوماسي.    وكالعادة طغى الحديث عن عنف ديني ليخفى خطايا أصحاب المصالح الإقتصادية والدينية.