«مُعَـارَضَـة» بين المؤَسِّـس والحفيـد.

قد يتساءَل القارئ الكريم كيف يكون هناك “مُعَارَضَة” بين المؤَسِّـس والحفيد وبينهما عشرات السنين !؟ هذا التساؤل في مَحَلِّه لِمَن يقرأ العنوان “بعيونٍ” سياسية، في حين أنَّ المقصود هُنا بكلمة أو مُصطَلَح “مُعَارَضَة” هوَ معناها المُتَعَارَف عليه في الشِّـعر العربي. فلا يخفى على المُهتمين بالشِّـعر العربي فنّ “المُعَارَضَة” في الشِّـعر. حيث أنَّ فنّ “المُعَارَضَة” هو أحد الفنون الشِّـعريَّة القديمة، ويَعني أنْ يقوم شـاعِر بنَظم قصيدة جديدة على وزن وقافية قصيدة شـاعِر آخر، مع مُحاكاة موضوعها أو مُجاراتها، دون أنْ يُنظَر إليها على أنَّها سَرِقَة أو تقليداً حَرفيَّاً لتلك القصيدة، بل يُنظَر إليها على أنَّها مُنافَسَة فنية تُظهِر قُدرَة هذا الشـاعِر على الإبداع في نفس الإطار أو النَّظم الشِّـعري للشَّـاعِر الذي سَـبَقَهُ بكتابة تلك القصيدة. وبناءً على فنّ “المُعَارَضَة” في الشِّـعر، سيتم تطبيق مفهوم هذا الفن (المُعَارَضَة) على مُلَخَّص لا يتجاوز الصفحة الواحدة كَتَبَهُ أحد المؤرخين المُعاصرين للإجابة على السؤال التاريخي السياسي العالمي: كيف ظَهَرت دولَة المملكة العربية السعودية في الجزيرة العربية مَطلع القرن العشرين ؟ المؤَسِّـس قد لا نُبالِغ لو قُلنا أنَّه يَصعُب على أي مؤَرِّخ أنْ يكتُب صفحة أو فقرة واحدة فقط يُلَخِّص فيها كيف استطاع الملك عبدالعزيز ـــ طَيَّب الله ثراه ـــ أنْ يُنشئ مِن العَدَم في الجزيرة العربية دولة المملكة العربية السعودية عام 1932م، في تلك الفترة التاريخية العصيبة في العالم، التي عاصَرَت الحرب العالمية الأولى وسقوط الامبراطورية العثمانية وتقسيم العالم العربي إلى دولٍ احتلّتها بريطانيا وفرنسا. حيث مِن المعلوم أنَّ عملية تأسيس المملكة على يد الملك عبدالعزيز كُتِبَ ويُكتَب عنها آلاف الكُتُب والمقالات والدراسات بُعَيدَ فَتح الملك عبدالعزيز مدينة الرياض، عاصمة الدولة السعودية الأولى والثانية، عام 1319هـ/1902م وحتى يومنا هذا. ولكن ـــ في ظَنَّي المُتَواضِع ـــ هُناك مؤَرِّخ مُعاصِر استطاع أنْ يكتُب هذه الصفحة أو الفقرة التي تُجيب على السؤال السابق، ذلكُم هوَ الكاتب روبرت ليسي في كتابه “المملكة The Kingdom by Robert Lacey”، الذي نُشِرت طبعته الإنجليزية الأولى عام 1981م، حيث كَتَبَ أجمَل فقرَة أو مُلَخَّصٍ وافٍ وشافٍ للإجابة على السؤال الكبير: كيف تأسَّـسَـت المملكة العربية السعودية في الجزيرة العربية في مطلع القرن العشرين !؟ حيث كَتَبَ روبرت ليسي في صفحة 221 في الطبعة الأولى باللغة الإنجليزية ما يلي: “لم يَعُد مِنْ المألوف اليوم بناء التاريخ حول الأبطال. ومِنْ الناحية النظرية، كان مِنْ الواجب على عِلْم الأنثروبولوجيا وعِلْم الاجتماع وعِلم الاقتصاد في شبه الجزيرة العربية في السنوات الأولى مِنْ هذا القرن (العشرين)، أنْ يُفَسِّر لنا كيف اجتمعت المَشـيَخات والمُدُن والقبائل المختلفة في شبه الجزيرة العربية لتشكيل هذه الدولة الضخمة غير العادية (المملكة). ولكن هذا لم يَحدُث. والإجابة الوحيدة المُرضيَة تَكمُن في الرؤية الفريدة والمهارات التي يَتَمَتَّع بها عبدالعزيز. لقد كان مَصدَر إلهام عبدالعزيز هوَ شَرَف الأُسرَة، وطُموحها الدافع إلى إعادة بناء الإمبراطورية التي سيطَرَ عليها أسـلافه قبل قرنٍ مِنْ ولادته، وكان يسترشد بذكريات تدمير الدرعية التي أقنعته بضرورة تَجَنُّب إثارة التدخل الأجنبي في شبه الجزيرة العربية مرة أخرى. بالنسبة لمُعظَم الناس في الغرب اليوم، لم تبدأ المملكة العربية السعودية في الوجود إلاَّ في عام 1973م (بسَـبَب حَظر المملكة تصدير النفط أثناء الحرب العربية الإسرائيلية في أُكتوبر 1973م)، أو على أقرب تقدير في أواخر عام 1930م، عندما تَمَّ اكتشاف النفط. ولكن بالنسبة للمملكة وأولئك الذين يحكُمونها الآن، فإنَّ الجُزء المهم مِنْ القصة اكتَمَل بحلول عام 1932م. وما جـاء بعد ذلك لم يَكُن سِـوى مُكافـأة مِنْ الله للإنجـاز الشُـجاع الذي تَحَقَّقَ مِنْ قَبْل”. أي أنَّ المؤرِّخ روبرت ليسي يقول: إنَّ الإجابة على السؤال: كيف نشـأت دولة المملكة العربية السعودية في الجزيرة العربية مَطلَع القرن العشرين الميلادي الماضي، لا يُمكِن تفسيره وِفقاً للمعايير أو النظريات الأنثروبولوجية أو الاجتماعية أو الاقتصادية خلال تلك الفترة، ولا يَملِك الإجابة على كيفية تمَّ تحقيق ذلك بدءاً من عام 1902م سوى الملك عبدالعزيز، الذي كانت لديه الرؤية واضحة تماماً لكيفية إنشاء هذه الدولة، كونه بناها على أمجاد أُسرة آل سعود التي أنشأت الدولة السعودية بدءاً من عام 1727م في بلدة الدرعية. الحفيـد وبالإتكاء على فنّ “المُعَارَضَة” ليس في الشِّـعر، ولكن في جانب الكتابة الصحفية أو التأريخية، وكذلك بإعادة قراءة ما كتَبَه روبرت ليسي عن كيفية إنشاء الملك عبدالعزيز لدولة المملكة في القرن الماضي، يُمكِن الكتابة عن مسيرة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان التي تُوِّجَت مُؤخَّراً باللقاء التاريخي بينه وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، وما تَمّخَّضَ عنه من إتفاقيات وإعادة ترتيب الأوراق في الشرق الأوسط؛ وذلك بطَرح السؤال المحوري التالي: كيف ظَهَرَ الأمير محمد بن سلمان على الساحة السعودية والدولية !؟ لقد كُتِبَت ـــ وسَـتُكتَب ـــ العديد مِن الكُتب والأبحاث والمقالات عن مسيرة الأمير محمد بن سلمان، سواءً على المستوى المحلي مُنذُ أنْ بدأ نَجمُه يَسطَع على الساحة السعودية، بدءاً بوظيفة مستشار أمير منطقة الرياض وحتى اختياره ولياً للعهد، وأخيراً فوزه بثقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بتكليفه برئاسة مجلس الوزراء؛ أو على المستوى العربي والدولي الذي نُشاهِده حالياً بوَضع سُموه المملكة ضِمن مجموعة الدول العشرين ولاعباً إقليمياً ودولياً لا يُمكِن تجاهله. فهل يستطيع أي شخص أنْ يُفَسِّـر كيف استطاع الأمير محمد بن سلمان أنْ يجعل المملكة الدولة الأولى التي يزورها أي رئيس أمريكي مباشرةً بعد تنصيبه عام 2017م !؟ أو كيف استطاع الأمير محمد بن سلمان أنْ يكون أوَّل قائد عربي كبير تُوَجَّه له دعوة رسمية لزيارة أمريكا من رئيسها بعد إعادة انتخابه !؟ والأهمّ مِن ذلك، كيف استطاع الأمير محمد بن سلمان المُحافظة على علاقته القوية مُنذُ تسع سنوات برئيس أمريكي فريد جداً ـــ على مستوى العالم المُعاصِر ــــ في إدارته السياسية وعلاقته بزعماء الدول الحليفة والصديقة بصفةٍ عامة !؟ والأَهَمّ مِن الأهَمّ، كيف استطاع الأمير محمد بن سلمان التعامُل مع أزمَةٍ راهَنَ “خُبراء” السياسة باستحالة استطاعته التعامُل معها، تِلكُم هيَ قضية جمال خاشقجي، رحمه الله. فقد واجَهَ سُموه تداعيات تلك القضية مُباشرةً، بل أعلَنَ عن مسؤوليته عنها، كونَهُ في موقع قيادي حين حَدَثَت؛ ليس إلاّ. ولكن السؤال الذي لن يستطيع أي شخص الإجابة عليه هوَ: كيف استطاع الأمير محمد بن سلمان أنْ يكسَب ثِقَة الرئيس دونالد ترامب الذي أتعَبَ جميع القادة الذين استقبلهم في البيت الأبيض، أو تواصل معهم في فترة رئاسته الأولى، وزاد تَخَوُّفهم من لقائه أو مُحادثته مُنذُ توليه رئاسته الثانية في 20 يناير 2025م !؟ وكيف يُمكن تفسير تَدَخُّل الرئيس ترامب مُباشرةً بالإجابة على السؤال الذي يَجتَرَّه الإعلام الغربي وغير الغربي وبعض ساسته صُبحَ مساء مُنذُ عام 2018م، ويَحشُرونه في أي موضوع أو تغطية عن المملكة، سياسيَةً كانت أم غير سياسية، ذلكُم موضوع جمال خاشقجي !؟ فقد كانت المفاجأة “لخُبراء” السياسة قيام الرئيس ترامب شـخصياً بالإجابة على ذلك السؤال الذي كان أساساً موَجَّهاً مُباشَـرةً للأمير محمد بن سلمان، بشأن قضية جمال خاشقجي، بل أغلَقَ الرئيس ترامب هذا الموضوع تماماً حين وَبَّخَ الصحفية التي سألت السؤال قائلاً: “الأمير لا عِلَمَ له بما حَدَث، والموضوع يُعتَبَر مُنتَهٍ عند ذلك”. بالفعل، كيف استطاع الأمير محمد بن سلمان أنْ يَجعَل رئيس أمريكي “صَعب جداً” يُغلِق “باباً” كبيراً إتكأ عليه الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن وزبانيته قبلَ وبعد إنتخابه رئيساً لأمريكا لِمُحاولة إبتزاز المملكة مُمَثَّلَةً بسُموِه، ولا تزال تستخدمه كُبريات وسائل الإعلام الغربية وغير الغربية للإساءة لسُموه الكريم ومملكتنا الغالية !؟ كذلك، هل هُناك إجابة على السؤال الأهمّ: كيف استطاع الأمير محمد بن سلمان أنْ يجعل المملكة بالفعل مَحطّ أنظار قادة العالم العربي والإسلامي، قولاً وعَمَلاً؛ بل والدولة الأكثر تأثيراً في السياسة العربية والإقليمية، ساحباً البساط مِن تحت دوَلٍ عربية وشرق أوسطية كان يُنظَر لها ولسنوات طويلة بأنَّها “مُعادلة” صعبة في المنطقة العربية !؟ ثُمَّ كيف يُمكِن تفسير الحفاوة والاحتفالية الضخمة وغير المسبوقة التي أقامها الرئيس الأمريكي الأصعَب في التاريخ الأمريكي، للأمير محمد بن سلمان أثناء زيارته الرسمية الأخيرة للبيت الأبيض !؟ قد يقول قائل أنَّ السبب الأوَّل والأخير والإجابة على تساؤلاتك السابقة هوَ البترول والأموال السعودية. ولكن حقيقة الأمر أنَّ هناك دوَلاً عديدة أغنى وأقوى اقتصادياً مِن المملكة، ومع ذلك لم يحتفِ الرئيس الأمريكي ترامب بزُعمائها كاحتفائه بسمو الأمير محمد بن سلمان، باستقبال حافل هو الأول مِن نوعِه مُنذُ تولي ترامب الرئاسة الأمريكية للمرة الثانية. بل إنَّ غالبية زُعماء الدول الغربية وغير الغربية الكُبرى أصبحوا يحسبون ألف حساب عند لقائهم الرئيس الأمريكي ترامب مُنذُ عودَته الثانية للبيت الأبيض، ومع ذلك لا يَسلَم غالبيتهم مِن “لَسَـعاته” السياسية والاقتصادية؛ باستثناء الأمير محمد بن سلمان. حيث لم يَجِد سموه سوى قِمَّة الاحترام والتقدير والمديح والثناء من الرئيس الأمريكي ترامب قبلَ وأثناء وبَعدَ دُخوله البيت الأبيض قبل أسابيع قليله. إنَّ المُتابع لتعامُل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد دخوله البيت الأبيض للمرة الثانية مع الدول الحليفة والصديقة وغير الصديقة وزُعمائها وكبار ساستها، لا يَجِد تفسير كيف استطاع الأمير محمد بن سلمان أنْ يجعَل المملكة مِن أقرب الدول للرئيس ترامب، رَغمَ أنَّ الأمير لم يُلبِّ الرغبة الجامحة للرئيس ترامب بانضمام المملكة إلى اتفاقيات أبراهام، حيث كان شَرط المملكة الذي لم يتغير منذُ عشرات السنين هو وجوب قبول إسرائيل بحَلّ الدولتين. وعلى الرغم مِن رَفض الأمير محمد بن سلمان تحقيق الأُمنيَة السابقة للرئيس ترامب، فقد استطاع سُمُوه انتزاع مكاسب أمنية واقتصادية كبيرة جداً مِن أمريكا. فقد استطاع الأمير محمد بن سلمان أنْ يَضمَن حصول المملكة على أسلحة أمريكية متقدمة جداً (طائرات F35) وتعاون نووي وشراكات سعودية أمريكية تكنولوجية وصناعية مُتقدمة جداً واتفاقية أمنية دفاعية استراتيجية تُعامِل بموجبها أمريكا المملكة كحليف رئيسي مُماثِل لوضع حُلفاء أعضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) دون التزام المملكة بأعباء الحلف. مِن المؤَكَّد أنَّ الأسئلة لا حَصرَ لها بشأن الموقِع الذي صَنَعَهُ لنفسه الأمير محمد بن سلمان، ولكن لن نستطيع تفسير كيف حَدَثَ ذلك. وآخراً وليس أخيراً، لو طَرَح أي شخص قبل عشر سنوات السؤال التالي: هل مِن المُمكِن أنْ يتولى أحد أحفاد المؤَسِّـس، وفي سِـنٍّ مُبَكِّر جداً (32 سَنه)، زمام الأمور في المملكة في مَطلع القرن الحادي والعشرين، ويُعيد رَسم الخريطة السياسية والاقتصادية، ليس السعودية فحسَب، بل العربية والإسلامية، وأنْ يصنَع للمملكة مهابة واحترام دولي كبير جداً؛ لكانت الإجابة بالنفي القاطع. وبالتالي لن يستطيع أي خبير أو باحث سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أنْ يُفَسِّر كيفَ تَمَكَنَّ حفيد مِن أحفاد المؤسِّس أنْ يتبوأ هذا الموقع الكبير جداً على مستوى المملكة والعالم العربي وغير العربي وفي هذا السِنّ المُبَكِّر وبهذه السرعة. إنَّ الإجابة على تلك التساؤلات والاستفسارات الكثيرة جداً موجودة عند “الحفيد” فقط، ذلكُم هُوَ صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان؛ بالضبط كما كانت الإجابة على تساؤل “كيف خَرَجَت دولَة المملكة العربية السعودية في الجزيرة العربية مَطلع القرن العشرين” موجودة لدى شخص واحد فقط، ذلكُم هوَ “المؤسِّـس” الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمه الله وأسكنه جنة الفردوس؛ كما استنتَجَ ذلك المُؤَرِّخ روبرت ليسي. خُلاصَة القَول، أنَّ الأمير محمد بن سلمان هو ذلك الشـاعِر الذي قرأ قصيدة شـهيرة جداً لشـاعِر عظيم سابق، فبدأ يكتُب قصيدة “مُعَارَضَه” يُحاكي فيها تلك القصيدة الشهيرة. ولكن الإختلاف بين “المُعَارَضَة” الشِّـعرية “والمُعَارَضَة” التاريخية المُعاصِرَة، أنَّ القصيدة الشهيرة تلك كانت تأسيس المملكة العربية السعودية على يد “المُؤسِّـس” عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، طَيَّب الله ثراه؛ والقصيدة “المُعَارَضَة” التي لم تَكتَمِل جميع أبياتها بَعد، هي التي تكتُبها يد وعقل “الحفيد” الأمير محمد بن سلمان، بدعمٍ وتوجيه من والدنا وقائد مسيرتنا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظهما الله وسَـدَّدَ على طريق الخير خُطاهُم.