قراءة في مجموعة عبد الله النصر القصصية (يوتوبيا الطين)..
تقنية المفارقة وصدمة المفاجأة في مهارة التصوير وفن اللقطة.
تأصيل وتجذير واستكشاف في إطار فني يسلك سبيل النوع الأدبي الذي يلتقط لحظات التوتّر و التأزّم، فن القصة القصيرة؛ ولكنه يتجاوز محدّدات هذا الفن فيمتد الزمن فيه وتتراخى امداء السرد لتلامس سقف الرواية في تقاطعها مع الوجدان الذاتي السيري الذي يحفر عميقاً في مرحلة الطفولة المبكرة و الفضاء المفتوح على مساحات بلا تخوم، فثمة نبش في الذاكرة الفرديّة والاجتماعيّة والهويّة المكانيّة بغية التذكير و التوثيق متجاوزةً منحى السلوك إلى هواجس النفس ورغباتها الكامنة ومزاجها المتغير، واختراقاتها لما تحوْصل في النفس و وقَر في الطباع، واصطياد للطرافة في المسالك ودروب الحياة؛ فضلاً عن صياغة الأنماط و تشكيل النماذج واصطياد المفارقات واستبصار لقوانين الوراثة واختلاف السُّبل وانتقاء المواقف، واستنبات البراءة في حقول الشقاوة ورياض الطفولة، والتقاط غرائب اللغة وحيوية التخاطب، وسيميائيّات الطقوس في الملبس والحديث والمأكل و المشرب، كما يتضح ذلك في القصة الأولى من المجموعة (بنات المطوعة) على المنوال ذاته ينسج الكاتب قصصه فيتحرّى المواقف الصعبة والأحوال الملغزة بروح انتقادية وملاحظة شفيفة ، و يغوص في عمق الزمن وكأنه يستلُّ من براثنه الأسرار الكامنة و المعضلات المستعصية؛ ولكنه لا يقف عند حدود الوقائع فيصوِّرها؛ بل يغوص في نخاعها ويجوس في لُبابها: تربية الروح وسطوة الظلم وغياب القوانين وجشع النفوس وتباين الأحوال والأجيال، وتقادم الدلالات و المفردات ففي قصة (البلد الطيب) يصوّر عصر سيادة الأعراف وغياب القوانين وخشية الله بديلاً لذلك الغياب وخُبث الطمع حين يستولي على النفوس؛ فهو في هذه القصة يلامس جذر الأزمة في محيطها الذاتي مُتمثّلاً في الأب الذي حرص على الأمانة وغضب لأجلها ونقيض ذلك في أنماط الجشع وغلبة الجاه و المال؛ إنه فنُّ الأزمة، وثمة قاموس جديد لكلمات سادت ثم بادت متوائمةً مع زمانها في تسميات مُتعارَفٍ عليها بين جيل مضى وانقضى (الدوسة وثبر) المزرعة والحد الفاصل بين قطعتي الارض تحديدا لملكيتها كما فهمت. دقةٌ في رسم الشخصية والتقاطٌ لملامحها الجسديّة والنفسيّة و محيطها الاجتماعيّ و التغلغل في ماضيها، وتتبّع تشكّلها ومعاناتها و مقارنة بين ماضيها وحاضرها وقسماتها و معاناتها وإضاءة النهاية ولحظة التنوير، القصة (الصورة) بروتريه يتغلغل قيما وراء الظاهر ( البروتريه تمثيل فني لشخص يركّز على الشكل أو الملامح لإظهار جوهره ومزاجه بالرسم أو التصوير الفوتغرافي أو النحت بقصد الكشف لا عن دخائله و بنيته النفسية فحسب؛ بل لالتقاط اللحظة الحرجة ، وهو نهج في البناء السردي للقَص على النحو الذي يرتئيه، و تنوّع في البناء والتشكيل كما في قصته (صرير النار) فقد صور الكاتب ما آل إليه حال الشخصية عبر التقاط ملامحها الجسدية في ذروة معاناتها المرضيّة، وفي النهاية اللحظة الحرجة مختزلة في عبارته الأخيرة في بناء دائري ينتهي من حيث بدأ تكثيفاً وتركيزاً للازمة ؛ فالقصة القصيرة فن الآزمة كما يصوّرها منظّروها وروّادها الأُوَل ونقادها. هناك تتبدّى اللقطة المفعمة بالدراما (الصراع) و(السلام ) و(البراءة) والنهاية المفاجئة ؛ فن التصوير بالكلمات المثقل بحمولة من الصفات التي تختزل ملامح اللحظات الحرجة، والنماذج التي تحفل بها المرحلة في ثنائيّة تميط اللثام عن الخطاب الشعبي السائد، والألعاب الشعبية وطبيعة العلاقات السائدة بين شقاوة الأبناء وقسوة الآباء وشطف الحياة و قسمات الحياة الاجتماعية، وقد حرص الكاتب على الكشف بجرأة وصراحة عن فظاظة الحياة وقسوتها. تتصاعد قصص المجموعة في تصوير مدارج المعاناة، وتتعالى إيقاعات البؤس في لغة حادة يستعيرها من المصطلحات السائدة في تسمية الأدوات المستعملة في الصراع مع متطلبات العيش، مثل لفظة (تاوة) التي تتكرّر مرات عديدة “ تمسح العجينة السمراء الكرويّة على تاوة مستديرة كاستدارة و جهها المغضّن بحمق اللهب و النسيان، تاوة حديدية كذراعها الذي صلّبه العوز” فكلمة تاوة تتكرر مرات أخرى عديدة، فهي من الألفاظ المحوريّة التي تقترن بالمعاناة في لغة يشكّلها في فضاء الصفحة البيضاء على نحو يشبه ترتيب السطور الشعرية في سياقٍ حادِّ النبرة دراميّ التصاعد في صراع الأم مع ابنها الجائع، وهي لقطة مشهديّة مفعمة بالدلالة موحية بما كان سائداً في تلك الحقبة الزمنية؛ وعنوان القصة دالّ على أمرين: الثقافة السائدة بنبراتها الحادّة و الصريحة (أنت فقط) والمعاناة البالغة، وهذه اللقطة التي تكاد تقترب من فن القصة القصيرة جداً ذات بنية ثلاثية البداية والذروة ولحظة التنوير التي تفسّر قسوة الظلم مع ابنها حين شبه العجينة بنهديها، فضلًا عن التصاعد الدلالي في لغة القصة عبر التقاطع بين الأدوات المستعملة و الجوارح المكدودة للأم المنخرطة في مكابدة العمل لإعداد الخبز. في قصص المجموعة وجْدٌ موصول مع المكان والحجر و الإنسان؛ ثمة تواشج بين المكان و الإنسان في خطاب شعري مشحون بشعريّة خفيّة تربط بين الأشياء والأحياء، وتستدعي أجواء المطالع الطللية في المعلقات، تنساب في لغة أقرب ما يكون إلى الشعر في إيحاءات مجازاتها وإيقاع كلماتها وصخب الذاكرة التي تستدعي الماضي في عشق مكتوم وَ وَله يضطرم في القلب وينعكس على الجوارح؛ واما النهاية فتأتي بمفارقة صادمة فتخدش بلا رحمة مشاعر الوجد ولحظات التبتُّل في محراب الماضي لحظة انثيال الذكريات، نهاية صادمة يتلقى فيها العاشق المحزون مفاجأة تحمل في أعطافها ملامح الهزيمة وبطش اليقظة على واقع الحال و صرامة المآل من طفولة الحاضر إلى شيخوخة الماضي، إنه قانون الوجود وحكم الزمن. في قصته (رائحة الموت) يقترب من الفانتازيا تتصاعد ملكته التصويرية فيلِمُّ بدقائق المشهد المشحون بالقلق و الترقب و اليأس و الخوف أمام جثة الصديق الذي اختار له اسماً يدلُّ على المفارقة التي تجمع بين المعنى و نقيضه (نديم) من المنادمة التي تعني المسامرة و التسلية و على البهجة و في الوقت ذاته توميء إلى الندم بمايوحي به من حسرة وألم، فوصفه لصديقه المريض الذي يدقّق في ملامحه فيبدو كبناء آيل للسقوط على أبواب الموت بما يحيط بمحاولة إنقاذه من يأسٍ بادٍ وموت منتظر، في موازاة ذلك فانتازيا الهروب والاصطدام مع الموت الذي تنتقل فيه العدوى من المريض المسجّّى إلى الزائر، فيطير في ملكوت الخوف ويرتطم بالفناء فإذا به حيٌّ يتحدى الموت ويعيد سرد الحكاية من جديد ، ملمح فانتازي مفارق يتشكّل عبر لحظة التنوير. يمضي الكاتب في التقاط المشاهد وتصوير الملامح وتتبّع التفاصيل وانتقاء المفردات في حراك مستمر؛ فالمشاهد مفعمة بالحياة ضاجّة بالدلالة في تفاعل حيوي مع الطبائع و النفوس والأمزجة عبر النخييل و التمثيل و التصوير واستنطاق المشاهد واستنباط الدلالات ؛ولعل أكثر قصصه دلالة على ذلك قصة (صاحب القُفّة) الطفل الذي يحمل قفة التمر في تعب ومكابدة ظاهرة وسعادة ومرح داخلي بائن. وفي نهج جديد يبني الكاتب سرديّاته على نحو جديد فيصور المشاهد مستعيراً تقنية إعلامية تتخللها لقطات مفارقة دالّة ولحظات محرجة عصيبة للنموذج الذي يقدِّمُه فيتعمّد تركيز الأسئلة على الجوانب المثيرة التي تكشف المثالب و نقاط الضعف؛ ولكنها من زاوية أخرى تعبّر عن التحدّي والتحوّل من السلب إلى الإيجاب، و مع ذلك كله تظلُّ معبّرة عن المعاناة مصوِّرة للفقر و الحاجة كما في غالبية القصص ويبرز فيها الهم الثقيل والمغالبة الصامدة أمام الظروف الصعبة. وفي مقابل هذا اللون من ألوان السّرد القصصي الحافل بالمعاناة والأسى يفاجئنا الكاتب بشكل آخر من أشكاله يقوم على المفارقة المُدهشة أيضاً بهيّةً زاهيةً، تتمثل فيها المرآة بجيشانها العاطفي وانفعالاتها السريعة، والمفاجأة الصادمة حيث الانقلاب الانفعالي السريع بين حالتين من أحوال النفس تنقبض فيها أساريرها حين تهاجمها الوساوس وتنفرج حين تفاجأ بعكس ما كانت تظن كما في قصة (دلال) بعنوانها الموحي بمضمونها العاطفي الأنثوي. ويصوّب الكاتب عدسته على اللحظات المشرقة كما صوّبها على حالات البؤس و لظلام ؛ فهو يقدّم لنا نموذجاً للطفولة البريئة المكافحة المنفتحة على الحياة ومُتعها الطبيعيّة بعد طول المكابدة و المجاهدة ، وقد سبق أن أشرت إلى براعته في التقاط الصورة ورسم البروتريه ، نماذج أخشى من المغامرة في القول زاعماً أنها لقطات حيّة ذات بعد (اوتوجرافي) ودليلي على ذلك حرارة التعبير وسورة الاندهاش و الحماس في تصويره للصبيّ المناضل الذي اغتسل من أوصاب التعب متطهِّراً من عرق المكابدة متمتّعاً بجمال الطبيعة مُقتاتاً بما تساقط من ثمراتها ، وقوله في خاتمة قصتة ( تلك الروح) وفي ولحظة التنوير: “ روح الصبي الفخمة الشفافة هي شغاف روحي؛ بل روحه هي روحي ذاتها” وفي ( قصته عندما يسفر الرماد) يسلك تقنية ً تتجاوز المفارقة الصادمة إلى المفاجأة الصاعقة في متن بليع شفاف منسوبُه يلامس سقف الشعر في سياق يجمع بين أعلى درجات الطهر والعذرية، ويعانق أجرأ أوصاف الشهوانية في انسجامٍ نادر واتّساقٍ رفيع المستوى، لغة شفّافة في مجازٍ شاهق شفيف الدلالة، رقيق التعبير متناغم الإيقاع يمتَح من عاطفة جيّاشة وشهوة مشتعلة جذوتها لاهبة محلقة ونهايتها صادمة محبطة. والمجموعة هذه ذات نهج واضح التميّز طموح إلى التحديث والتجديد، يمكن أن يُقال فيه الكثير ، وإن بدا ذ اسياقات سرديةٍ تحتفي بالحكاية وتلفت إلى متعة القص.