هجرة الوظائف ..

التشغيل العابر للحدود.

ماذا يعني أن تقرأ إعلانًا وظيفيًا لشركة محلية، باسمٍ تجاري مسجّل داخل السعودية، ونشاطٍ يخضع للأنظمة الوطنية، ثم تكتشف — بهدوءٍ عابر — أن موقع العمل خارج المملكة، ومخصّص لغير السعوديين؟ السؤال يبدو بسيطًا، لكنه يحمل دلالة مقلقة: أن الوظيفة ما زالت تُنسب للسوق المحلي، بينما التنفيذ يغادره دون ضجيج. هذا التحوّل لا يأتي من فراغ. خلفه أسباب اقتصادية واضحة، أبرزها السعي إلى خفض التكاليف التشغيلية، وأسباب أقل تصريحًا، تتعلق بمحاولة الهروب من التزامات التوطين، والتأمينات، ومتطلبات الامتثال المرتبطة بسوق العمل السعودي. وعلى الورق، يبدو القرار عقلانيًا؛ فالشركات ترى في المشغّل الخارجي حلًا سريعًا، وأرخص، وأكثر مرونة. لكن ما يُحسب كوفرة مالية قصيرة الأجل، غالبًا ما يُترجم لاحقًا إلى فقدٍ مؤسسي يصعب تعويضه. المشكلة لا تكمن في مبدأ الاستعانة بمصادر خارجية بحد ذاته، بل في عمق الوظائف التي يتم ترحيلها خارج الحدود. حين تمتد هذه الممارسة إلى إدارات تمس البيانات، أو العملاء، أو الموارد البشرية، أو العمليات الجوهرية، فإن الشركة لا تخفّض تكلفتها فقط، بل تنقل جزءًا من عقلها خارج نطاق سيطرتها. وهنا يبدأ الخطر الحقيقي، لأن القرار لم يعد تشغيليًا، بل بنيويًا. أخطر ما في هذا المسار هو انكشاف البيانات. بيانات الموظفين، وملفات العملاء، والسجلات التشغيلية، وأنماط السلوك، كلها تتحرّك عبر حدود قانونية مختلفة، وتدخل بيئات تنظيمية لا تخضع بالضرورة لنفس المعايير أو أدوات الرقابة. ومع أن العقود قد تبدو كافية على الورق، إلا أن الواقع يقول إن البيانات، حين تخرج من الولاية القضائية، تخرج معها القدرة الفعلية على حمايتها. وفي عالم تتحوّل فيه البيانات إلى سلعة، فإن المخاطرة لا تكون تقنية فقط، بل تمس السمعة، والثقة، والاستدامة. في المقابل، يُساء فهم التوطين في كثير من الأحيان. يُنظر إليه كعبء مالي أو التزام شكلي يجب التحايل عليه، لا كاستثمار طويل الأمد في بناء المعرفة المحلية والاستقرار التشغيلي. بينما الحقيقة أن التوطين، حين يُدار بوعي، يخلق ذاكرة مؤسسية، ويُنتج كفاءات تفهم السياق، وتحمي القرار، وتدافع عن مصلحة الشركة، لا عن بنود عقدٍ مؤقت. الالتفاف عليه عبر الحدود قد يخفف الضغط الآني، لكنه يفرغ السوق من فرص التراكم، ويحوّل الاقتصاد من منتِج للكفاءات إلى مستهلك لخدمات عابرة. من هنا، تبدو الحاجة ملحّة إلى التفات تنظيمي جاد. ليس لمنع الشركات من الاستعانة بمشغّلين خارجيين، بل لتنظيم هذه الممارسة قبل أن تتحوّل إلى نمط واسع يفرغ سياسات العمل من مضمونها. أحد المسارات الممكنة يتمثل في إلزام الشركات بتسجيل جميع الوظائف المتاحة عبر وزارة الموارد البشرية، وربط هذه الوظائف بالموقع الجغرافي الفعلي للنشاط الذي تعمل فيه الشركة داخل المملكة. وحين تكون هناك حاجة حقيقية لمشغّل خارجي، فإن المنطق المؤسسي والوطني يقتضي أن يكون هذا المشغّل من داخل السعودية، خاضعًا لنفس الأطر النظامية، وحاملًا لنفس الالتزامات تجاه البيانات والتوطين. الهدف من ذلك ليس تقييد الشركات، بل حماية التوازن بين المرونة الاقتصادية والسيادة التنظيمية. فالشركة التي تعمل في السوق المحلي، وتستفيد من بنيته، وتخاطب عملاءه، لا يمكن أن تفصل وجودها عن مسؤوليته. وحين تصبح الشركة محلية بالاسم، وعابرة للوطن في التشغيل، فإن السؤال لم يعد اقتصاديًا فقط، بل سؤالًا عن شكل السوق الذي نريد بناءه، ونوع الاستدامة التي نبحث عنها. ليس كل توفيرٍ حكمة، ولا كل عقدٍ حماية. وبعض القرارات، وإن بدت ذكية في لحظتها، تُضعف المؤسسة على المدى الطويل من حيث لا تنتبه.