صوت الصحراء الخالد..

من أيام العرب الأولى إلى اكتمال الحكاية في الدولة السعودية.

لم تكن « أيام العرب » مجرّد صدامات تُرفع فيها السيوف وتعلو فيها الأصوات، بل كانت الوهج الأول الذي تشكّل منه الوعي العربي، والمرآة التي رأى فيها الإنسان نفسه قبل أن تعكسه الدول والكيانات. في تلك الأيام، كان الفارس يمضي إلى المعركة وهو يدرك أن القضية أوسع من حدود مضرب أو مورد ماء، وأن الكرامة التي يحملها على رمحه لا تخص فردًا واحدًا، بل قبيلة بأكملها، وأن القصيدة التي تنتظر عودته هي التي ستمنحه الخلود أو تنزعه منه. كان العربي يخوض الحرب كما يخوض القدر، بشجاعة ممزوجة بالتأمل، وبقلب يعرف أن الموت ليس الغاية، بل الامتحان الذي تنجلي فيه المعادن وتُختبر فيه المروءات. وحين نقترب من تلك الأيام، يتبدّى أن الصحراء — على اتساعها — لم تكن فراغًا، بل مسرحًا تتحرك فيه قيم لا تتزحزح: جِوارٌ لا يُخفر، وذمّة لا تُنقض، ومستجير لا يُسلَّم، وثأر لا يُطلب إلا بما يليق برجال يعرفون الحدود بين الشرف والتهوّر. كانت القبائل، رغم اختلافها، تدير الحرب بقواعد صارمة؛ فلا يُقتل فيها طفل، ولا يُتبع فارٌّ طلب الأمان، ولا يُغتال العهد الذي تُليت كلماته تحت سماء واحدة. وهكذا، نسجت « أيام العرب » وعيًا تشكّل من الحكمة بقدر ما تشكّل من السيف، ومن الشعر بقدر ما تشكّل من الدم. وفي سجلّ تلك الأيام، تتقدّم أحداث بعينها بوصفها علامات وعي لا مجرد وقائع حرب. فـ يوم ذي قار لم يكن انتصارًا عسكريًا فحسب، بل إعلانًا مبكرًا بأن العربي قادر على حماية عهده، وأن الكرامة لا تُقاس بقوة الخصم بل بثبات الموقف. أما داحس والغبراء فقد كشفت الوجه المأساوي للصراع حين ينفلت من الحكمة، فصارت شاهدًا على أن الحروب التي تبدأ بالاعتداد قد تنتهي بإرهاق القبائل وتآكل المعنى. وفي حرب البسوس بلغ الثأر ذروته، حتى تحوّل من دفاع عن الشرف إلى عبءٍ تاريخي، علّم العرب — بثمنٍ فادح — أن طول النزاع لا يصنع نصرًا، بل يؤخر الخلاص. ويأتي يوم بعاث بوصفه منعطفًا مفصليًا، إذ أنهك الأوس والخزرج حتى أدركوا أن استمرار القتال يعني الفناء، فكانت تلك الجراح المفتوحة هي التربة التي نبتت فيها فكرة الاجتماع تحت راية واحدة. حتى الأيام التي خاضتها العرب مع قوى خارج الجزيرة، كـ يوم حليمة مع الغساسنة، حملت في طياتها معنى يتجاوز السيف، حيث امتزجت القسوة بالرمز، والقوة بالإنسان، لتؤكد أن العربي — حتى في الحرب — كان يصوغ للحدث ذاكرة لا تخلو من القيم. وفي قلب تلك الأيام ينبض الشعر كالرئة التي تتنفس بها الذاكرة. فما إن تخفت سنابك الخيل حتى يبدأ الشاعر في جمع ما تفرّق من اللحظة، يلتقط ارتجاف الفرس وهي تقتحم الغبار، ويلمع في قوله وميض السيوف، ويُسجّل بحروفه صوت الشيخ وهو يميل إلى الصلح حين يرى الدم يوشك أن يغمر النهار. وبفضل ذلك الشعر وحده وصلت إلينا تلك الأيام ساخنة كأنها ما زالت تحدث الآن، لأنه حمل ما عجزت عنه الكتب الأولى، وصاغ من الوقائع أسطورة تبقى مهما تبدّلت الجهات. لكن تلك الأيام، بما فيها من صراع ومجد، لم تكن النهاية، بل كانت التهيئة لنهضة أعظم. فحين بزغ الإسلام، كانت قبائل الجزيرة — بما حملته من دهاء وتجربة ونظام — مهيّأة لأن تجتمع تحت راية واحدة. حملت قيمها القديمة إلى المعنى الجديد، وتحولت أيامها القبلية إلى أيام أمة تمتد من قلب الصحراء إلى آفاق العالم. ومضت القرون، وخلّد التاريخ أن القيم لا تموت، بل تنام تحت الرمال إلى أن يأتي من يوقظها. وهكذا، في القرن الثاني عشر الهجري، نهض الإمام محمد بن سعود ومعه الشيخ محمد بن عبدالوهاب ليؤسسا الدولة السعودية الأولى. كانت الدرعية في تلك اللحظة أشبه بنبض قديم عاد ليخفق من جديد؛ استعادة لروح العرب الأولى، وتجسيد لفكرة الوحدة التي نضجت في وعي الجزيرة عبر آلاف السنين. اعتمدت الدولة الأولى على ذلك الرصيد العميق: على النجدة، وعلى صلابة العهد، وعلى الشعور بأن الأرض الواسعة لا تُحكم إلا بالكلمة الواحدة والغايات المشتركة. وحين تعرّضت الدولة الأولى للتراجع، لم تُطفأ الفكرة، لأن جذورها كانت أعمق من أن تنكسر. لذلك، نهض الإمام تركي بن عبدالله ليستعيد من الرياض الدولة السعودية الثانية، ويعيد بناء البيت ذاته بروحٍ أشد قوة ونضجًا. كان ذلك البعث امتدادًا طبيعيًا لذاك التاريخ؛ صبر يشبه صبر الفرسان حين يُخذلون، وإصرار يشبه إصرار الشعراء حين يؤمنون بأن الكلمة لا تموت. ثم جاء القرن العشرون، وجاء معه الموعد الأكبر مع قدر الجزيرة. ظهر الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن، يحمل في قلبه يقينًا يشبه يقين أبطال « أيام العرب »، ويجمع في رؤيته حكمة الأجداد وبأس الأزمنة الأولى. لم يكن توحيد المملكة عملًا سياسيًا فحسب، بل كان اكتمال الحكاية التي بدأت من صهيل الخيل في أيام الجاهلية، وامتدت عبر الدولة الأولى والثانية، حتى بلغت ذروتها في الدولة السعودية الثالثة، المملكة العربية السعودية. كان الملك عبدالعزيز يعيد وصل ما انقطع، ويجمع الأرض التي طالها التشتت، مُمسكًا بدروب الصحراء كما لو كانت إيقاعًا يحفظه منذ الطفولة. وفي هذا الامتداد الطويل — من أيام العرب التي كُتبت بالشعر، إلى الدولة السعودية الحديثة التي تُكتب بالتنمية والوحدة والرؤية — يظهر خيط واحد لا ينقطع: خيط القيم. فالكرامة التي دافع عنها الفارس القديم هي نفسها التي رُسِّخت عليها الدولة الحديثة. والعهد الذي لم يُنقض في مضارب القبائل هو ذاته الذي حملته السعودية وهي تبني حضورها في العالم. والبأس الذي حمله العربي على صهوة جواده هو البأس نفسه الذي حوّل هذا الامتداد الصحراوي إلى دولة قوية، راسخة، وفاعلة. وهكذا، حين نقرأ « أيام العرب »، لا نقرأ ماضيًا منسيًا، بل نقرأ جذور الدولة السعودية بكل طبقاتها. نقرأ ملامح الهوية التي صاغت العربي منذ آلاف السنين، ثم صاغت الإنسان السعودي الذي يحمل إرثه في قلبه ورؤاه في عينيه. إن « أيام العرب » ليست تاريخًا فحسب، بل نبضٌ ممتد في روح الجزيرة، يواصل رحلته عبر الدولة السعودية الأولى، والثانية، والثالثة، وصولًا إلى اليوم… حيث تقف المملكة أمام العالم بوصفها ابنة التاريخ ورافعة المستقبل.