تعثّر الكتابة أم تحوّل الكاتب؟

صدِّق أو لا تصدِّق! برغم حبّي العميق للكتابة والقراءة، إلّا أنّ الأولى تعثّرت في الفترة الأخيرة تعثّرًا لا يشبهني. كنت أكتب قبل أن أتعلّم كيف أعرّف نفسي، وأقرأ قبل أن أعرف ما الذي أبحث عنه. لكن فجأة، شعرت بشيء يُبطئ يدي، يربك الجملة، ويجعل الصفحة البيضاء أكثر اتساعًا من احتمالي. ظللت أفتّش عن السبب، أدوّر الدوائر حول ذاتي، حتى وصلت إلى اكتشاف بسيط وعميق في آن... العمر. نعم… العمر. ليس بمعناه الزمني فحسب، بل بمعناه الوجودي؛ حين تتقدّم بنا السنون، تَضيق الذائقة عن أشياء كانت تَسعنا، وتتّسع لأشياء لم نكن نراها. هي ليست خسارة، بل تبدّل في زاوية النظر. الإنسان الذي كنتُه بالأمس ليس هو الذي يكتب اليوم، وليس هو الذي سيقرأ غدًا. لذلك تتباطأ الكتابة، لأنّ الكاتب تغييرٌ مستمر، بينما الكتابة تطلب ثباتًا لحظة واحدة على الأقلّ. كنت أملّ من فكرة أنّ الإنسان ثابت في هذه الحياة. حبّه واحد، حزنه واحد، صدقه واحد، وخيانته واحدة. تتغيّر الظروف ولا يتغيّر جوهره. الحب، الصدق والكذب، الأمانة والخيانة، الكره والحنين… كلها مثل صخور قديمة ترقد في أعماقنا. ورغم تكرارها، فإنّ الحياة تصرّ على أن تقدّمها لنا كلّ مرة في قالب مختلف، كأنها تختبر قدرتنا على التلقي من جديد. وهنا تحديدًا بدأت أسأل نفسي: لماذا تضيق مساحة دهشتي؟ لماذا لم تعد الكلمات تهرب نحوي كما كانت؟ الجواب جاء من جهة لم أكن أراقبها: اتّساع الأفق. لم تعد الكتابة وحدها تكفيني، ولم يعد الأدب وحده يروي عطشي. أصبحتُ أتساءل عن النفس، عن الروح، عن وجودي هنا: هل نحن قدر أم اختبار؟ هل نمشي في هذا الفلم الكوني كأننا نعرف نهايته أو كأننا سقطنا بالصدفة في أحد مشاهده؟ كلما تعمّقت في السؤال، انفتحت أمامي احتمالات جديدة، لا تُشبه تلك التي في الكتب، ولا تلك التي في الطفولة. وكأنّ الكون يهمس الأفق الواسع ليس للنجوم فقط، بل لداخل الإنسان أيضًا. ومع ذلك، لا أنكر أنّ جزءًا كبيرًا من الحنين يجرّني دائمًا إلى الخلف إلى أيام كنّا فيها أصغر من أن نفهم هذا الثقل. إلى السطوح في الليالي الهادئة، حين كنّا ننام تحت سماء صافية، نعدّ النجوم كأنها ملكنا، ونحلم بالوصول إلى أبعد نجم، أو أبعد مجرّة. هناك، في تلك الليالي، انكتب أول فصل من حياتي مع الدهشة. كنّا نعتقد أنّ الزمن خط مستقيم يقودنا للأمام، ولم نكن نعرف أنه دائرة تعود بنا دائمًا إلى البدايات، إلى تلك اللحظات التي ظننّا أننا تجاوزناها. واليوم، وأنا أكتب بعد انقطاع، أدرك أنّ الكتابة تشبه العمر تتعثّر لكنها لا تتوقف. تتباطأ لكنها لا تموت. قد نبتعد عنها، لكنها تظلّ واقفة على العتبة، تنتظر عودتنا مهما طال الغياب. الكتابة ليست حرفًا يُصاغ، بل حالة وجود تتشكل في كلّ مرّة نجرؤ فيها على سؤال أنفسنا: من نحن؟ ولماذا نحن هنا؟ وما الذي نبحث عنه في هذا الاتساع الكوني الذي يُشبه صمتًا طويلًا؟ ربما كلّ ما نحتاجه هو أن نتقبّل أنّ أزمات الكتابة ليست نقصًا في الإبداع، بل علامة على أن الروح تتحرّك. على أنّ شيئًا في الداخل ينمو، يكتشف، يعيد ترتيب خريطته. وربما كان هذا التوقّف القصير هو ما يعيدني إليها الآن، أكثر نضجًا، وأقلّ استعجالًا، وأقرب إلى حقيقتي. فالكتابة، مهما ابتعدت، تبقى الطريق الذي يعيد الإنسان إلى نفسه. والقراءة، مهما ازدحمت، تبقى الجسر الذي يربط بين عالمنا الداخلي ومساحات الكون الواسعة. وبينهما، يمشي الكاتب فوق خيط رفيع، يحاول أن يوازن بين طفولته التي كانت تنظر للسماء، ورجولته التي تفتّش عن معنى الوجود. ما زلتُ ذلك الطفل الذي يحلم بالوصول إلى أبعد نجمة. لكنّ الفرق الوحيد أنني أدرك اليوم أنّ أقرب مجرّة ليست فوق رأسي… بل داخلي.