مثقف الكاميرا!
يبدو أن المشهد الثقافي ابتُلي بنوع جديد من “المثقفين الفوتوغرافيين”؛ أولئك الذين يمكن أن تلتقط لهم كاميرا أي قناة فضائية من مسافة كيلومتر واحد، لأن ضوء رغبتهم في الظهور أكثر لمعانًا من وحدات الإضاءة في الاستوديو نفسه, مثقف لا يحتاج إلى مؤلفات، ولا مشروعات فكرية، ولا حتى رأيًا متماسكًا , فقط يحتاج إلى زاوية تصوير جيدة، وابتسامة توحي بأن بين حاجبيه أطروحة دكتوراة غير مكتوبة. هذا المثقف يجلس في كل ندوة وكأنه في انتظار أن يعلن أحدهم فوزه بجائزة نوبل في “المشاركات الشفهية”, يلوّح بيده كما لو أنه يعزف على وتر حساس في الوعي الجمعي، يرفع أنفه وكأنه على قول الشاعر ابن جدلان «كنه يتوحّى بالسما صوت جبريل»، لكن هذه الوحي ينقطع فور أن تُسحب الكاميرا من أمامه. وفي كل مرة يحدثك عن مشروعه العظيم « اللي يشتغل عليه» منذ سنوات , يخبرك بعمق أنّ “كل شيء مشروع” ثم يبتسم ابتسامة تُغني عن كل الإجابات وتُعفيه من أي التزام معرفي. هو مثقف يصوّر أكثر مما يفكر , تجده في صالون أدبي , أو كوفي لا يرتاده أحد , أو حتى بنشر على مشارف المدينة , المهم أن يكون في المكان « مايك وكاميرا» وليس مهماً أن يكون هناك من يستمع أو يهتم! وإذا سألته عن مؤلفاته، يجيبك بأن “الفكرة ما تزال تتخمّر”، وهي فكرة تخمّرت كل هذا العمر ولم تخرج إلى العالم إلا على هيئة ظهور إعلامي جديد! ذلك المثقف الذي يبدّل اهتماماته أسرع مما يبدّل المذيع أوراقه: مرّة ناقد، ومرّة مفكر، ومرّة خبير في شؤون لا يعرفها، ومرّة متحدث عن تاريخ لم يقرأه. المهم أن يبقى في الضوء، فالضوء- بالنسبة له- أوكسجين المعرفة , فهو يتحدث عن كل شيء لكنه ليس متخصصاً بشيء , فهو « حكواتي ممتع « لكن يعيبه تصنّع الإلقاء والتلاعب بمخارج الحروف المبالغ به. المفارقة أن هذا النوع من المثقفين ينجح دائمًا في إقناع الجمهور – لأطول وقت ممكن - بأنه صاحب “مشروع”، تمامًا كما ينجح الطفل في إقناعك بأن الرسم (العبثي) الذي يشير إليه هو بالفعل “حصان” , والقناعة هنا لأنك «مكبر دماغك» وليس لأنه على حق! الغريب أنه يحظى بجماهيرية خاصة في أوساط أو أدغال « السوشال ميديا» , سيما أنه يقتبس مقولات فلسفية مع صورة فنجان قهوة , تلك السوداء التي « يحتسيها» المثقفون عادة , حيث أصبحت الثقافة بمعناها الجديد مجموعة من الطقوس كالقهوة , وأغاني فيروز , وتصوير أغلفة الكتب التي لا يلزم قراءتها , فكل ما يحتاجه أن يقرأ مختصراً عن تعريف الكتاب الذي يجلبه له الذكاء الاصطناعي ! كل هذه يمكن فهمه في سياق التباهي , أو حتى ملء مساحات أوجدتها السوشال ميديا تغري للثرثرة , لكن ما لا يمكن فهمه هو أن يجنح المثقف الحقيقي الجاد ويشعر أنه الأحق بالتواجد في المقاعد الأولى لحفلات « الهياط الثقافي» , وما أن يجهر بخيبة أمله حتى يجد نفسه في مواجهة « مثقفي الضوء « فيختلط الحابل بالنابل , وقتها يعلو الضجيج الذي يدور حول كل شيء إلا الثقافة والمعرفة , فيتحول الحوار إلى إسقاطات « شخصية «ومعايير» وهذه من مصدر «عياره « وليس «معيار»! , وللأمانة « هوشات» المثقفين ومدّعو الثقافة تخلو المتعة , فالشتائم ينبغي – على الأقل- أن تكون ذات ومضة فاتنة وذكية , وتجدها عند محبي « الشاهي» أكثر من أولئك الذين يحتسون القهوة!