عندما انطلقت أول صورة متحركة للفيلم السعودي الطويل “ظلال الصمت 2006” في أروقة مهرجان كان السينمائي، كان حدثاً تاريخياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. قدّم المخرج عبد الله المحيسن هذا العمل كأول فيلم روائي طويل في تاريخ المملكة العربية السعودية، حيث كانت السينما وقتها غائبة والبنية التحتية لها معدومة، ورسالة فكرية جريئة وطموحة، محاولاً من خلاله تشريح واقع سياسي عربي متوتر بقلم سينمائي رمزي حاد. يصبح النظر إلى “ظلال الصمت” اليوم ضرورياً من زاويتين متلازمتين: زاوية تقديره كتجربة ريادية شاقة كسرت حاجز الصمت الإنتاجي، وزاوية تحليله كخطاب فني حاول أن يطرح أسئلة كبيرة ربما فاقت في طموحها إمكانياته التنفيذية المباشرة. تدور قصة الفيلم في فضاء رمزي مكثف، يختزل الصراع بين الفرد والسلطة في صورة “معهد” منعزل في قلب الصحراء. يظهر هذا المعهد للعالم كمركز راقٍ للعلاج النفسي والتأهيل الاجتماعي، بينما تكشف الأحداث أنه في الحقيقة سجن حديث مصمم لغسل أدمغة المثقفين والمعارضين وقولبتهم وفق رؤية نظام تسلطي. تتعاقب المشاهد لترصد ثلاث حبكات متقاطعة: معاناة النخبة المسجونة داخله، مثل الكاتب بديع مراد والخبير بهاء الدين، في محاولتهم اليائسة للمقاومة والتحرر، وبحث سميرة وعمر المضني في الخارج عن ذويهما المفقودين داخل أسوار المعهد غير المرئية، وتحول بعض العاملين داخل المنظومة نفسها، كالبروفيسور حمود، ضد الغاية الحقيقية للمكان الذي يخدمونه. كل هذه المسارات تلتقي مع قوة خارجية تمثل ضمير الأرض الأصيل، ممثلاً في الشيخ فلاح الناصري وابنه صالح وقبيلتهما، الذين يرفضون هذا الجسم الغريب في محيطهم ويساهمون في النهاية في تحرير السجناء. بهذه الرمزية الواضحة، يقدم المحيسن رؤيته النقدية لآلية الدولة الأمنية التي تسعى لتحطيم الإرادة الفردية وإخضاع العقل الحر. لا يمكن فصل الجرأة الفكرية للفيلم عن السياق الاستثنائي الذي وُلد فيه. فصناعة فيلم بهذه الطموحات في بيئة تفتقر تماماً لأبسط مقومات الصناعة السينمائية كانت مغامرة كبرى. اضطر الفريق للتصوير بالكامل خارج المملكة، تحديداً في مدينة تدمر السورية، وعانى لسنوات من التحديات اللوجستية والتمويلية. هذا الجهد المضني أكسب الفيلم شرعيته الرمزية كبيان وجودي لسينما سعودية ممكنة. وقد حصد هذا الجهد اعترافاً دولياً، حيث تم عرضه في محافل مرموقة مثل مهرجاني كان وروما، وحصل على الجائزة الفضية في مهرجان القاهرة. على المستوى التقني، جمع الفيلم بين نقاط قوة وضعف تميز كثير من الأعمال الريادية. فمن ناحية، استطاع المخرج صياغة رؤية بصرية مقنعة لعزلة الصحراء ورهبة المؤسسة القمعية، واستعان بنخبة من الممثلين العرب المخضرمين مثل غسان مسعود ومنى واصف ومحمد المنصور وعبدالمحسن النمر وإحسان صادق، وحظي بميزة ثمينة هي الموسيقى التصويرية المؤثرة للموسيقار زياد الرحباني. لكن من ناحية أخرى، ظهرت بعض أوجه القصور في الإخراج الذي بدا أحياناً جامداً، وفي بعض الأداءات التي لم تخلُ من التكلّف، كما أن اللغة العربية الفصحى التي اختارها للحوارات كلغة موحدة، وإن خدمت الطابع الرمزي العام، إلا أنها أبعدت المشاهد عن إحساس بالواقعية الملموسة وجعلت الخطاب يبدو منفعلاً أحياناً. هنا تكمن الإشكالية المركزية التي واجهها “ظلال الصمت” لقد وُجه إليه نقد بأنه، رغم جرأته السياسية الواضحة، كان “أقل جرأة” في توغله الاجتماعي المحلي. فقد اختار خطاباً عاماً وشاملاً يتناول؛ أزمة المثقف العربي، والسلطة المستبدة. كمفاهيم مجردة، متجنباً الخوض في تعقيدات الواقع الاجتماعي الخاص أو تفاصيله المحددة. هذا جعل النقاد يتساءلون عن مدى “محلية” العمل الحقيقية، خاصة مع غياب البيئة الجغرافية والممثلين المحليين البارزين في أغلب الأدوار الرئيسية. كما أن البنية الثنائية الواضحة للصراع بين الخير، المثقفون، والقبيلة الأصيلة. والشر، النظام وآلته القمعية، مع حل متفائل بالتحرير بمساعدة خارجية، بدت للبعض تبسيطاً لمعادلة سياسية أكثر تعقيداً وإرباكاً في الواقع العربي. هذه “العمومية الخطابية” هي التي جعلت الرسالة تبدو أقرب إلى خطاب مثقف عربي قومي عام، منها إلى تحليل سينمائي لجذور الإشكاليات في محيط محدد. رغم هذه الانتقادات المشروعة، يبقى “ظلال الصمت” عملاً مؤسساً لا يمكن تجاوزه في أي تأريخ للسينما السعودية. لقد كان ضرورياً كصدمة وجودية، كسرت تابو الطول وصناعة الأفلام في المملكة. لقد أثبت – حينها - المحيسن ومعه فريق العمل أنه من الممكن، رغم كل الصعاب، إنتاج فيلم سعودي يحمل رؤية ويشارك في حوار سينمائي عالمي. الفيلم بجرأته الأولى وطموحه الفكري، رغم كل ما في خطابه من مباشرة وتجريد، شق الطريق وفتح الباب في وقته. الأهم من تقييم نقاط قوته أو ضعفه الفنية المحددة، هو الاعتراف بدوره كحجر أساس. فظلال هذا الصمت الذي كسره كانت طويلة، ومهدت الطريق للأمواج اللاحقة من المخرجين والمخرجات السعوديين الذين جاءوا بعد عقد تقريباً، ليتناولوا بقدر أكبر من الثقة والتفصيل والحرفية، هموم المجتمع المحلي وقضاياه من داخل تفاصيله، حاملين معهم شعلة السؤال السينمائي التي أوقدها هذا العمل الريادي الشجاع.