لم تكن الحِرَف اليدوية في الثقافة العربية مجرد أنشطة معيشية تُلبّي ضرورات الحياة، بل تحوّلت، منذ العصور الأولى، إلى صور نابضة في الشعر العربي، وأمثال سائرة في اللسان، حملت دلالات المهارة والإتقان، والقوة والصبر، حتى غدت الصناعة أثرًا للهوية، وصوتًا للغة وهي تعبّر عن خبرتها بالعالم. فقد استوعب القول العربي تفاصيل النسيج والحدادة والدباغة والنجارة، وجعل من أدواتها وأفعالها رموزًا تُستعار للمدح والحكمة والتجربة الإنسانية، في تفاعل حيّ بين اليد التي تصنع، واللغة التي تُخلّد. وفي سياق الاحتفاء بعام الحِرَف اليدوية 2025، نعيد قراءة هذا الحضور العميق للحِرَف في الشعر العربي والأمثال، بوصفه شاهدًا ثقافيًا على وعي العرب بقيمة العمل اليدوي، ومكانته في تشكيل المخيال والوجدان عبر العصور. صورة شعرية للحرفة حظيت الحِرَف اليدوية، منذ أقدم العصور، بمكانة بارزة في الشعر العربي، لا بوصفها نشاطًا معيشيًا فحسب، بل باعتبارها تجلّيًا من تجليات الوعي بالحياة، والقدرة على تطويع المادة، وتحويلها إلى معنى. وقد تنوّعت صور هذه الحِرَف في أشعار العرب، منذ ما قبل الإسلام، فدلّ ذلك على معرفة واسعة بضروب الصناعات، وإتقانٍ لفنون عديدة. نسيج وحياة في مقدمة الحرف كانت حرفة حياكة الأقمشة والمنسوجات، التي ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بحياة الإنسان اليومية، من لباسٍ وفراشٍ وزينة، حتى غدت لغة الشعر مرآةً لهذه الصناعة، ووعاءً لتصوير دقتها وجمالها، وقد انعكس هذا الحضور جليًا في الشعر الجاهلي، حيث برز وصف الأقمشة المنسوجة بوصفها علامة رقيّ ونعومة وذوق. يقول ربيعة بن مقروم واصفًا هوادج النساء وقد كُسيت بالبُسط، واستشعرن الريط العراقي لرقته ونعومته: جَعَلْنَ عَتِيقَ أَنْمَاطٍ خُدُورًا .. وَأَظْهَرْنَ الكَوَادِنَ وَالعُبُونَا عَلَى الأَحْدَاجِ، وَاسْتَشْعَرْنَ رَيْطًا.. عِرَاقِيًّــــــــــا، وَفَسِــــــيًّا مَصُونَا صار الثوب عنصرًا فاعلًا في الصورة الشعرية، يجاور المرأة والهودج والرحلة، ويمنح المشهد أبعاده الحضارية، ولم تقف صناعة النسيج عند حدود الحاجة، بل بلغت درجة عالية من الإتقان، ولا سيما في نسيج الحرير والكتان والقطن والصوف. وقد اشتهرت بعض الحواضر العربية بوجود النسّاجين المهرة، كما في قصر الخورنق، الذي ضم عددًا من النسّاجين، وهو ما أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله: إذ لا تُرَجِّي سُلَيْمَى أَنْ يَكُونَ لَهَا .. مَنْ بِالخَوَرْنَقِ مِنْ قَيْنٍ وَنَسَّاجِ ويؤكد امرؤ القيس هذا الوعي حين يصف نسيج العراق الموشّى المزخرف، فيقول: جَعَلْنَ حَوَايَا وَاقْتَعَدْنَ فَعَائِدًا .. وَخَفَّفْنَ مِنْ حَوْكِ العِرَاقِ المُتْمَقِ كما يشبّه طرفة بن العبد رسوم الديار بثوب وشيّ يماني منسوج بإتقان، في صورة تجمع بين المكان والحرفة والزينة: وَبِالسِّفْحِ آيَاتٌ كَأَنَّ رُسُومَهَا .. يَمَانٍ وَشَتْهُ رَئِيدَةً وَسُحُولُ هكذا يتجلى النسيج في الشعر العربي بوصفه لغة ثانية، تُترجم الإحساس بالجمال، وتؤكد أن الحرفة كانت حاضرة في الوعي الجمعي بوصفها مكوّنًا من مكونات الحياة والهوية. * سيف وصانع الصناعات المعدنية، وفي مقدمتها صناعة السيوف، مثّلت رمز القوة والصرامة، وقد أفرد لها الشعر العربي مساحة واسعة، إذ ارتبط السيف بالشرف والحرب والبأس، كما ارتبط اسم الصانع بجودة الأداة ومهارته. ولم يكن الشاعر يمدح السيف دون أن يلتفت إلى يد الصانع التي صاغته، فجعل من الحرفة عنصرًا أساسيًا في بناء الصورة. يقول أوس بن حجر مشيدًا بدقة صناعة ابن مجدع، وهو يصف سيفًا مصقولًا أبيض يتلألأ لمعانه: وَذُو شُطْبَاتٍ قَدَّهُ ابْنُ مُجَدَّعٍ .. لَهُ رَوْنَقٌ ذَرَّتْهُ يَتَأَكَّلُ وَأُخْرِجَ مِنْهُ القَيْنُ أَثَرًا كَأَنَّهُ .. مَدَبُّ دِبًا سُودٍ سَرَى وَهُوَ مُسْبِلُ ويرتبط اسم أبي العجلان بصناعة السيوف أيضًا، وقد صوره الأعشى وهو ينكبّ يومًا كاملًا على شحذ السيف، حتى يتصبب العرق منه، في مشهد يجمع بين الجهد الجسدي والإتقان الفني: وَإِلَّا كُلَّ ذِي شُطَبٍ صَقِيلٍ .. أَكَبَّ عَلَيْهِ مِصْقَلَتَيْهِ يَوْمًا يَقُدُّ إِذَا عَلا العُنُقِ الجِرَانَا .. أَبُو عَجْلَانَ يَشْحَذُهُ فَتَانَا * جلد ومعيشة إلى جانب النسيج والمعدن، برزت الصناعات الجلدية في حياة العرب، وقد استفادوا من جلود الإبل والبقر والضأن والماعز، فقاموا بمعالجتها وإزالة الوبر عنها ودباغتها باستخدام عروق بعض النباتات وأوراقها، لإنتاج ما يحتاجون إليه في حياتهم اليومية. وقد انعكس هذا النشاط بوضوح في الشعر، الذي صوّر تفاصيل العمل وأدواته بدقة لافتة. يصور لبيد بن ربيعة صانع النعال الجلدية وهو يُدخل المخرز في الجلد ويخرجه، فيشبه حركته بحركة قرني الثور حين يطعن بهما كلاب الصيد: يَشُكُّ صِفَاحَهَا بِالرُّوقِ شَزْرًا .. كَمَا خَرَجَ السَّرَادُ مِنَ النِّعَالِ هذا التشبيه الحركي يكشف مدى التصاق الشاعر بتفاصيل الحرفة، حتى تحولت حركة اليد إلى صورة شعرية نابضة، وجعلت من صناعة النعال مشهدًا حيًا في المخيلة العربية. * خشب وسهام كانت الصناعات الخشبية جزءًا لا يتجزأ من حياة العرب، فقد استفادوا من أشجار متعددة مثل: السدر والطلح والأرطى والرند، واتخذوا من أخشابها مادة لصناعة الأوتاد والعمد لخيامهم، والحدوج، والرماح، والقسي، والسهام. وقد أشار ابن خلدون إلى أن النجارة من ضرورات العمران، وهو ما يفسر حضورها في الشعر بوصفها فعلًا حضاريًا. وقد ذكر الشعراء أدوات هذه الصناعة، مثل المسامير التي تُستخدم في شد الألواح، كما في قول قيس بن الخطيم: فَلَا تَجْعَلُوا حَرْبَاتِكُمْ فِي نُحُورِكُمْ .. كَمَا شُدَّ أَلْوَاحُ الرِّتَاجِ المَسَامِرُ كما ورد ذكر أداة الثِّقاف التي تُقوّم بها الرماح لتستوي، في قول سلامة بن جندل: سَوَّى الثِّقَافُ قَنَاهَا فَهِيَ مُحْكَمَةٌ .. قَلِيلَةُ الزَّنْغِ مِنْ سَيٍّ وَتَرْكِيبِ ويبلغ الوصف ذروته في تصوير أوس بن حجر لصناعة السهام، حيث يتتبع الصانع في كل مرحلة من مراحل العمل، من اختيار العيدان، إلى تركيب النصال، ثم ترييش السهام بالريش اليماني: وَحَشْوَ جَفِيرٍ مِنْ فُرُوعٍ غَرَائِبٍ .. تَنَطَّعَ فِيهَا صَانِعٌ وَتَأَمَّلَا تُخُيِّرْنَ أَنْضَاءُ وَرُكِّبْنَ أَنْصُلًا .. كَجَمْرِ الغَضَا فِي يَوْمِ رِيحٍ تَزَيَّلَا فَلَمَّا قَضَى فِي الصُّنْعِ مِنْهُنَّ نَهْمَةً .. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تُسَنَّ وَتُصْقَلَا كَسَاهُنَّ مِنْ رِيشٍ يَمَانٍ ظَوَاهِرٍ .. سُخَامًا لُوَامًا لَيِّنَ المَسِّ أَطْحَلَا الحرفة في لغة الحكمة لم تقف الحِرَف اليدوية عند حدود الشعر العربي، بل تسربت إلى الأمثال العربية، التي صاغت من أدوات الحرفة ومعانيها حكمًا سائرة. فمن أمثال الحدادة قول العرب: لاَ يَفُلُّ الحَدِيدَ إلاَّ الحَدِيد”، وهذا مثل قولهم “الحديدُ بالحديد يُفْلَحُ”، يُضرب لمن يُواجه بقوة من جنسه. ويقولون أيضًا: “تضرب في حديدٍ بارد”، لمن يطمع في غير مطمع، يقول العرب: “الحديد أنفذ من سنان، ومن خارق، ومن خياط، ومن إبرة”، في تشبيه بليغ يُظهر أثر الأدوات وقوة الفعل حين يبلغ غايته. كما يقال: “أسبق من ظلّ الرمح، ومن خَرْتِ الإبرة، ومن سمّ الخياط”، حيث تُستدعى أدوات دقيقة وصناعات متقنة للدلالة على السرعة الخارقة وحدّة الأثر. ومن أمثال الخياطة: “لا أفعل كذا حتى يلج الجمل في سمّ الخياط”، يُضرب للأمر المستحيل. ومن أمثال الغزل: “أغزل من عنكبوت”، للدلالة على الحذق والمهارة. ويقال: “نسِيج وحده” لمن تفرد بصفاته ولم يُشارك فيها غيره. كما ورد مثل: “أعطِ القوس باريها”، أي سلّم الأمر إلى أهله، وهو مثل يكثّف فلسفة العمل المتقن، ويجعل الحرفة معيارًا للحكمة والمعرفة، ومن أمثال الجمع بين المهارات قولهم: “يجمع سيرين في خرزة”، يُضرب لمن يوفّق بين حاجتين في وجه واحد، في صورة مستمدة من صناعة دقيقة تجمع بين الإحكام والاقتصاد في الجهد. وتحضر صناعات الجلد والدباغة في المثل العربي بما تحمله من دلالات التحوّل والتغيّر، كما في قولهم: “كَدابِعَةٍ وقد حلم الأديم”، وهو مثل يُضرب للأمر الذي فسد ثم انتهى فساده، إذ إن الجلد إذا بلغ مرحلة الحُلُوم لم يعد صالحًا للإصلاح. كما يقال: “تصنع في عامين كُرْزًا من وبر”، يُضرب مثلًا للبطيء في عمله، وهو تصوير يستدعي حرفة دقيقة وصبرًا طويلًا، ليُسقِطها على السلوك الإنساني في العمل والتدبير، وفي سياق الفخر بالصنعة والاعتزاز بها، يقال: “هل صاغك بعدي صائغ؟”، وهو مثل يُضرب للفخر بجودة التأثير، وتشبيه التأديب أو التكوين بالصياغة الفنية للذهب أو الفضة. أثر الصنعة وبلاغة القول إن الحِرَف اليدوية لم تكن يومًا هامشًا في الثقافة العربية، بل كانت في قلب القول الشعري، وروح المثل، وذاكرة الحكمة. فقد وعى العربي، منذ أقدم العصور، أن الصنعة ليست مجرد فعل يدوي، بل خبرة تُصاغ، ومعرفة تُتَوارث، حتى غدت اللغة نفسها حرفةً موازية، تُحسن النسج كما يُحسن النسّاج خيوطه، وتُحكم القول كما يُحكم الصانع صنعته. وليس أدلّ على هذا الوعي من قول المتنبي، وهو يرفع قيمة الإتقان ويجعله معيار الفضل: وما الحُسنُ في وجهِ الفتى شرفًا لهُ .. إذا لم يكن في فعلهِ والخلائقِ فالفعل المتقن، كما القول البليغ، هو ما يمنح الإنسان قيمته، ويخلّد أثره. ومما لا شك فيه أننا في سياق الاحتفاء بعام الحِرَف اليدوية 2025، نقف عند لحظة ثقافية تستعيد فيها المملكة علاقتها العميقة بتراثها الحِرفي، لا باعتباره ماضيًا منقضيًا، بل بوصفه طاقة ثقافية حيّة، تسهم في بناء الهوية، وتعزيز الاقتصاد الثقافي، وربط الأجيال بجذور الصنعة وأخلاق العمل. وهكذا تتكامل اليد واللغة، ويتجاور أثر الصنعة وبلاغة القول، ليشكّلا معًا ذاكرةً سعودية نابضة، قوامها الإتقان، وروحها الاستمرار.