عائشة المحمود:

الحراك الثقافي الأكثر صدقا هو الذي ينحو صوب الإنسان.

تبدو عائشة عدنان المحمود حالة ثقافية استثنائية تجمع بين الحسّ السردي المرهف، والاشتغال اليومي على صناعة الثقافة وإدارتها؛ فهي كاتبة تمتلك مشروعًا أدبيًا واضح الملامح، وفي الوقت ذاته تشغل موقعًا مؤثرًا بوصفها الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، إحدى أعرق المؤسسات الثقافية العربية وأكثرها تأثيرًا في تشكيل الوعي المعرفي العربي منذ عقود. إلى جانب عملها المؤسسي، راكمت عائشة المحمود تجربة إبداعية متنوّعة، توزعت بين الرواية، والقصة القصيرة، وأدب الرحلات. صدر لها في أدب الرحلات كتابا «في حضرة السيد فوجي سان: مشاهدات سائحة في اليابان»، و«هوامش على خارطة السفر»، وفي القصة القصيرة مجموعتا «آخر إنذار»، و«عابرون»، كما أصدرت روايتين هما «وطن مزور: يوميات البن والحناء»، و«عباءة غنيمة»، مؤكدة حضورها كصوت سرديّ منشغل بالهوية، والأسئلة الإنسانية، والتقاط التفاصيل الهشّة في التجربة الفردية والجمعية. الجنون التقني المتسارع *بعد اختتام معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الثامنة والأربعين، بدا المشهد الثقافي الكويتي وكأنه يؤكد من جديد حيويته المتجذرة والمتجددة، عبر نشاط النشر، وتزايد دور النشر والإصدارات،، وما رافق المعرض من برامج ثقافية. إلى أي أفق تتصورين امتداد هذه الحيوية الثقافية في السنوات المقبلة، وكيف يمكن أن تسهم في تعزيز مكانة الكويت كمركز عربي للتأليف والنشر وصناعة الأفكار؟ وهل هناك أفكار جديدة تعودنا مجيئها من الكويت؟  -في الماضي كان يمكن لإجابة من هذا النوع أن تأتي منسابه سلسة، أما اليوم وفي ظل هذا الجنون التقني المتسارع في ثورة ما يسمى بالذكاء الاصطناعي فيصعب التنبؤ  بالآفاق الثقافية القادمة ، فنحن في حالة لهاث خلف تلك التقنيات الحديثة في محاولة باسلة لاستيعابها أولاً ثم استعمالها ثانياً وربما كبح جماحها ثالثاً ، إن الأبعاد الثقافية وتطور المجتمعات وتحركها صوب العبث بدوائر الوعي الرتيب والإدراك الفكري المعتاد لا تقاس باتساع دوائر دور النشر أو تكاثف الإصدارات على أرفف المكتبات، فالتجارب التاريخية السابقة تخبرنا أن الحراك الثقافي الأكثر صدقا هو الذي ينحو صوب الانسان وتحديات عصره وفي سبيل ذلك قد نضطر إلى الغور في النفس البشرية تارة وفي واقعها تارة أخرى وذلك للكشف عن مشاكل تلك النفس وعورات ذلك الواقع و تتبع مواطن الخلل ونبشها من تحت الركام لعلاجها ، فالفعل الثقافي فعل مواجهة وعلاج في احدى صوره، ولا يمكن أن تبنى فكرة إلا على أنقاض فكرة أخرى اثبتت التجربة عدم صحتها ، ولهذا فإن دورنا في قطاع الثقافة ماهو إلا اتكاءة صغيرة على أكتاف التمني في محاولة صادقة لاستنطاق الواقع الثقافي ومحاولة أكثر جرأة للارتقاء به عبر منظومات مُعتبره ومُعّبرة عن حاجات الانسان في زمانه وذلك لمساعدته في عملية هدم وبناء الأفكار. ومعرض الكتاب هو أحد أشكال تلك المحاولة التي أراها في مداها المنظور أكثر امتدادا و رسوخا. واختصارا فإن الكويت كانت عبر مشروعات ثقافية رائدة مثل اطلاقها لمعرض الكويت الدولي للكتاب في منتصف السبعينات من القرن الماضي ليصبح القبلة العربية الثالثة للكتاب بعد معرضي القاهرة وبيروت والأولى خليجياً ، وعبر اصدارها لعدد من السلاسل الثقافية التي مثّلت منارات فكرية لامعه أضاءت وعي القارئ العربي ووهبته حصصا متسعة في شتى المعارف الانسانية ، فأنا أجزم أن إيمان الكويت بالمعرفة وضرورة إعادة صناعة الافكار لايزال قائما،أما الرهان على الجديد فهو أمرٌ لابد منه فالوقوف عند المحطات نفسها والاستجابة لمناطق الاعتياد لن يقود إلى فضاءات تتاخم الجمال كما نطمح، وأظننا قادرين على الوصول لها قريبا. مستقبل السلاسل الثقافية *شكّلت السلاسل الثقافية العريقة في الكويت -من «عالم المعرفة» و«إبداعات عالمية» و«الثقافة العالمية» و«من المسرح العالمي»، وصولاً إلى أيقونة الثقافة العربية «مجلة العربي»-ركيزة أساسية في الوعي الثقافي العربي منذ أكثر من خمسين عاماً، وأنا هنا أريد أن أنقل اليك تساؤلات القارئ العربي عن هذه السلاسل: ما الذي يخطط له المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب لمستقبل هذه السلاسل في زمن التحولات العميقة في سوق النشر والقراءة؟ من موقعك داخل المجلس، ما الرؤية القادمة لديكم لهذه المشاريع الكبرى؟ -كلنا يعلم أن سوق النشر العربي بات محفوفا بالمخاوف، تلك التهديدات الصغيرة التي تراكمت على مدى العقود الماضية بدت لنا عن بُعدٍ منظور أنها آنية وموائمه ولا تضمر المخاوف، إلا أنها ومع مرور الوقت وفي ظل ثورة التقنية تكثفت بما يكفي لتهز عرش الكتاب الورقي الراسخ، صرنا مرغمين أن نحيا في عصر خاطف تتسيد فيه الصورة و يسطو فيه الصوت على الكلمة، وذاك الزمن الذي كان فيما مضى متراخيا ممتدا يسمح لصاحبه أن يقرأ نصا طويلا ومتخما مثل ألف ليلة وليلة أو الأغاني أو حتى الأخوة كرامازوف ان شئت ، صار لاهثا يسبقك بأنفاس مقطوعة لا يمكنك سوى من قراءة نبذة صغيرة تلتصق بصورة تعدو عليه، ورغم إيماننا بتلك الحقائق التي لا يمكن أن ينكرها عاقل، إلا أننا لا نزال نراهن على حضور تلك الاصدارات بوصفها مشاريع ثقافية راسخة تقدم بأسعار شبه مجانية للقارئ العربي كهدية من الكويت للعالم، فتلك المشاريع التي تجاوزت اليوم عتبة عقدها الخامس إلا أنها لاتزال في واقعها شابة دفاقة تحمل تلك الالتماعات التي تضيء على مناطق المعرفة المعتمة، نعم نحن حريصون على بقاء ودعم تلك المشاريع الثقافية الكُبرى التي نفاخر بها، لكننا نؤمن كذلك أن النشر وآلياته ومنطلقاته لابد أن ينظر لها بشيء من الوعي الذي يجعلنا نقّيم التجربة بكثير من التجرد وأن نضع في الاعتبار أن قارئ اليوم مختلف، وأن من كان يبحث عن المعرفة عبر الكتاب صار يمكن أن يلتقطها عبر وسيلة أخرى على نحو أكثر سرعة، لكن الرهان هو صناعة قارئ لايزال يرتكن الى الكتاب بصيغته التي يحبها ورقية أو حتى الكترونية. وتماشيا مع هذه الرؤية في المرحلة القادمة سنعمل على اطلاق مشاريع ثقافية معاصرة تحتفي بالمنتج المعرفي، هذا المنتج المتسق مع رؤيتنا لدورنا الثقافي المتسع دون أن يُغشيها ضباب التمدن، أو تُغرقها بحار التكنولوجيا.   لا منافسة مع أحد *من موقعك كأمين عام لقطاع الثقافة في واحدة من أهم المؤسسات الثقافيه العربية ، كيف تقرأين التحولات الكبرى في الذائقة الثقافية لدى الجمهور الكويتي والعربي خلال العقد الأخير؟ ما الذي يمكن قوله هنا عن العلاقة التي يجب ان تنشأ بين المؤسسات الثقافية وبين الشباب؟ ما الذي ينقص المؤسسات الثقافية اليوم لتنافس المنصات الرقمية المؤثرة في تشكيل الوعي؟ -في ظل هذا التطور المتسارع وتغول الذكاء الاصطناعي وسطوته الظاهرة في كل ميادين الثقافة أستطيع أن أغامر وأقول ان الذائقة الثقافية لدى القارئ العربي عموماً لم تعد كما كانت في الماضي أصيلة ومنتمية إلى نفسها صارت بشكل ما مستعارة أو حتى منقسمة، في الماضي كان تشكل الذائقة أكثر سلاسة ورخامةً، كانت تتشكل من مصادر معرفية صغيرة تتكئ على بعضها فتهب صاحبها رسوخا و استبانه لا شك فيها، أما اليوم فتعدد مصادر المعرفة والتحولات الكبرى التي تشهدها المجتمعات والتي تهمي على عقل الفرد كفيلة بأن تشتت هذا الوعي وتبعثره، كل تلك الرواسب الفكرية تنثال لتخلق درجة مُحّيرة من الوعي المتشظي. كل تلك المعارف مع اشتباكها و اهتزازها وعوارها تخلق لدى القارئ العادي أو المثقف حالة من التباس المعاني، وهو أمر لا يلام عليه الفرد. وهنا يأتي دور المؤسسة وأقصد هنا المؤسسة الثقافية التي يجب أن تتراجع عن دورها القديم كونها صانع ومشّكل للمشهد الثقافي لتصبح الناظم لمسار هذا المشهد، وهو تراجع ضروري ولازم في ضوء طبيعة ماهو كائن، ماكان يقدم سابقا كان شكلا من أشكال استحلاب الوعي واستنهاضه قسرا للسير في مسارات تريدها له المؤسسة أما اليوم فالدور لابد أن يتغير ليستوعب شكل المجتمعات المعاصرة و يهضم تشكلات الوعي الشبابي اللازم. أما فيما يخص الشق الاخير من السؤال فالاجابة القاطعة لا منافسة، لا منافسة مع المنصات الرقمية، ولا مع المؤسسات الثقافية الموازية ولا المبادرات الاهلية الخلاقة، هي حلقة عليها أن تكتمل بوجود كل اطرافها هذا ما يجب أن يُدرك، وهو ما يجب أن نفهمه، يجب أن نُدرك أننا لا ننافس أحد لأنه لا مجال للمنافسة وأن الفضاء يتسع للجميع، وأن علينا أن نعمل جميعا على خلق شراكة معرفيه يسهل على المثقف الوقوع بها، شراكة على قدر انتشائها وتغولها إلا أنها تبقى محتفظة بنُبل رسالتها وبراءة نواياها، وللحقيقة الأمر ليس صعبا كما يبدو، ما يتطلبه الأمر فقط هو شيء من التماهي والانزياح صوب الاشتباك المعرفي والفكري مع المجتمع و روائه الثقافية.   هاجسي المجبول بالألم *بين مسؤولياتك الإدارية في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، التي تتطلب التخطيط والتنفيذ والمتابعة، وبين الكتابة التي تحتاج إلى مساحة من التأمل والهدوء… كيف استطعت التوفيق بين عالمين متباعدين في طبيعتهما؟ وماهي الاشياء المشتركة في هذين العالمين؟وربما نريد ان نعرف هل كان هناك موقف اضطرت فيه عائشة “الكاتبة” الى التخلي لصالح عائشة “المديرة”؟   -في هذا السؤال يكمن أرقي الأكثر إلحاحا وانشغالا، هاجسا مجبولا بالألم الذي لا يقبلُ المراء كيف يمكن لمثلي أن يزن الكفة فلا يغلب طيفاً على آخر، ما من أحد يعتلي سقوف العمل الإداري وهو يحمل في داخله روحاً إبداعية تهمس له في المساءات والصباحات لأن يفرد لها الكثير من وقته وجل طاقته إلا سيواجه هذه الارتعادة الأثيرية، فالكتابة كالعاشقة الغيور التي لا تطيق أن يُشركها مريدها مع أحد، وهي لا تنفتح على غاياتها الاسمى إلا إذا شعرت أنها كذلك، لذا لابد من الاعتراف أن في الأمر معضلة كبرى، أواجهها كل يوم بكثير من الانكدار المردوف بفيض من الصبر والتبسم، ولا أخفيك أنني أواجه مشكلة من نوع آخر فأن تكون كاتبا و مشتغلا بالابداع يجعلك دوما تشعر بغربة ما عن المحيط، تشعر وكأنك محمولاً على كف الريح لا تألف ولا تؤلف وربما في بعض الأحيان لا تعرف ولا تُعرف ، وأنك دوما هذا العضو النافر في ذاك الجسد المنسجم، حقيقة أجابهها كل يوم ولا أعرف منها خلاصاً . وعلى صعيد آخر فانغماري من عوالم الكتابة و قربي من الكُتاب و محاذاتي لمنظومة الإبداع بمفهومها المتسع وحتى الضيق تمنحني أفضلية رؤية الفضاء الابداعي في منظوره الأكثر شساعة و يهبني قدرة ما على استقراء الحقيقي من الكاذب والأصيل من الزائف. ولعل هذه هي الأرض المشتركة التي تمكن العمل الإداري و الكتابة من الوقوف عليها، فإذا ما خارت قوى صبري أجد قدماي راسختان على تلك الأرض الواحدة الصلبة التي لا تعرف التداعي. وإجابة على الجزء الأخير من السؤال بالطبع لا يمكن للكاتبة أن تتنحى، هو خيار لا تمتلكه ، الكتابة جزء أصيل من الروح لا يمكن لأحد أن يحتال أو يتحايل عليه وإن اجتهد.لكنني نعم أضطر في أحيان كثيرة أن اعتمر قبعة الإداري المهادن موصدة الباب في وجه المثقف الثائر الذي يضل لأمد يطول أو يقصر يناصبني عداء الاغتراب. حتى يلين جانبه أخيرا فيهبني وجها معصوبا بالغيض والحنق.   الموجة  الروائية أمر صحي *شهدت منطقة الخليج في السنوات الأخيرة طفرة لافتة في الإصدارات الروائية، مع تنوّع كبير في مستويات الأعمال المنشورة عبر دور النشر. أنت بوصفك كاتبة روائية كيف تنظرين إلى هذه الموجة الروائية المتسارعة؟ هل يُسعدك هذا الاتساع بوصفه دليلاً على حيوية المشهد السردي، أم يثير لديك بعض القلق من تفاوت الجودة وتكرار التجارب التي لم تكتمل أدواتها بعد؟ -الكتابة الابداعية حالة مفتوحة على كل الاحتمالات، وهي مساحة طلقة حرة للتجريب، تماما كما الفن وهذا هو وجه التقارب الكبير مابين الفن والكتابة كلاهما يحمل الريح على كفيه ولا يدري أهي تحمله أم هو الذي يحملها. لكن الموجة  الروائية التي نتحدث عنها هنا في مجملها على اتساعها و دبيب أقدام مرتاديها أراها أمرٌ صحي، فالكتابة بحد ذاتها بغض النظر عن مستواها فعل مقاومة وإشارات استغاثة يطلقها الكاتب نحو الفضاء عله يجد من يستجيب، وهو كذلك يشير بوضوح إلى حيوية الحركة الابداعية وطلاقتها، حتى الرديء منها  يجب التعامل معه كواقع يجب قبوله، الحل لا يكمن في اقصاء الرديء ودحره، على العكس ، الساحة من الرحابة بمكان أنها قادرة على استيعاب كل شيء وهضمه، حتى تصر قبضتها متى شاءت على تلك النقاط الوئيدة الحانية في تلك التجارب، الواقع يقول علينا  التجاوب مع مخرجاته بالكثير من الذكاء والتبصر فالزمن قادر على فرز الجيد من الرديء بغض النظر عن أرقام البيع والاكثر رواجا والفيصل دائماً وابداً هو القارئ الواعي. كما لا يخفى عليك أن تزايد رقعة الجوائز الموجهة لصالح الرواية هي ما سمحت لتلك الموجة لأن تكون بذلك الاتساع والعلو. وتفاوت الجودة و التجارب التي لم تناهز سقوف الاكتمال أمرٌ طبيعي، أرى أن كل التجارب الابداعية تبقى ناقصة لأنها إنسانية في المقام الأول وكونها تنتمي لمفهوم الإنسانية ستكون ناقصة بشكل ما بما في ذلك الأعمال الخالدة لكنه النقص الإنساني الطبيعي الذي لا يعيب التجربة ولا يضيرها.   أحب الشعراء وأنا منهم *عرفنا عائشة المحمود كقاصّة وروائية وأيضا ككاتبة في أدب الرحلات، غير أن طيف عائشة الشاعرة يمرّ كثيراً بين أسطر كتاباتك، إلى أي مدى يحضر الشعر في كتابتك؟ وهل يمكن أن نقرأ يوماً ما ديواناً شعرياً يحمل اسم عائشة المحمود؟ ثم إلى أي منهم تنحازين: القاصة او الروائية أو كاتبة أدب الرحلات؟ -إنه الشعر هذا الكائن الخرافي المجنون الذي أحبه سرا وجهرا، ربما المنشأ الأول لعلاقتي بالكتابة كان يرجع للشعر هذا الذي يمكن أن يهمي عليك من سماء سابعة لتلتقطه يداك كنجمة بعيدة كتب لها القدر أن تكون ملكك ، الشعر لا يحضر في سطوري هو يثب كما الأرانب الخائفة التي تتقافز من قبعة الساحر، يرسل تنهيداته المتثائبة عبر السطور تاركاً إياي حالمة بأن أكون شاعرة . و بين حقيقة أن الشعر لا يُسلم قياده بسهولة لأحد وأن الشعراء المجانين قلائل وأن تواتر القصيدة التي تغزو رأس صاحبها ليست مجرد كلمات إنما هي حالة ملائكية معلقة بين سماء وسماء ليتني أعتليها. تبقى أمنيتي الحائرة الرجراجة بأن يحمل ديوانا صغيرا من الشعر أسمي، فأنا أحب الشعراء وأنا منهم. أنا كل ما سبق! ، أجدني القاصة والروائية و كاتبة أدب الرحلات ، أنا التي تغذ الخطى في صحراء الكلمات وتأتمر بأمر الشعور فيقول اليوم قصة وغداً رواية وبعدها ديواناً أو كتاباً. لا يهم الوقوع في مربع الوصوف، ما يهم فعلاً هو أن تلاحق هذا الصوت الواهي الرقيق الذي يرسم لك خارطة الطريق فتنز منك الكلمات دون عناء. لكن للحقيقة أحب أن أكون الروائية، أحب أن أكون نسخة مني لا تحمل صور الأخريات وإن كنت مفتونة بإيزابيل الليندي وعوالمها الساحرة، لكنني نسختي المجبولة بختم المغايرة الذي لا يشبه الآخرين أو الأخريات.   دور الادب أن ينكأ الجروح *في أعمالك الروائية ثمة حضور كثيف للهوية… هل ترين أن سؤال الهوية أصبح هاجس الروائي العربي المعاصر أكثر من أي وقت مضى؟ إلى أي مدى يستطيع الأدب اليوم أن يناقش جروح الهوية في ظل حساسيات اجتماعية وثقافية متزايدة؟ -قد يكون في سؤال الهوية وتساؤلاتها المتخمة هذا الانشغال الثقيل الذي يفرض نفسه على عقل الكاتب العربي، التساؤلات التي تُبقي أرقها و نزواتها وكمدها على روح الكاتب في عالمنا، ربما في الأونة الأخيرة استطال هذا الهاجس وتمدد لدرجة صار يصعب على الواحد منا أن يهرب منه نحو تساؤلات أكثر رقة وهشاشة، وقد سبقني إلى تلك المنطقة الواخزة كبار الكتاب كأمين معلوف في الهويات القاتلة وسمرقند و مثل الطيب صالح في موسم الهجرة الى الشمال وغيرهم الكثير. و أعترف أنني حاولت في أعمالي الأخيرة أن أخرج من مصيدة التساؤل حول الهوية نحو الداخل نحو إعادة تأثيث الشعور و أن أعبر المسافة الفاصلة بين المكانين، لكن تبقى التداعيات التي تفرضها فكرة الهوية خصوصا في زمننا فعلا يلزم الحراك ويفرض الكتابة عنه و من حوله. دور الادب أن ينكأ تلك الجروح إن جاز لنا أن نسميها كذلك، دور الأدب أن يناكد ويكابد لا أن يهادن ويمزح، هو حالة من المقاومة المسكونة بالثورة، بالبحث عن مكامن التوجع والعبث عميقا جدا في الأسئلة الأكثر حلكة، الكاتب أشبه بمقتفي الأثر الخبير الذي لا تخونه حاسة النبش في الخرائب بحثا عن مخبوء الكنوز.   زمن الصوت والصورة *بوصفك من الأصوات المتميزة في أدب الرحلات، الذي تغيّرت أدواته جذرياً بعد أن حلّت الصورة والمشهد محل الكلمة…كيف تصفين تجربتك في هذا الجانب..وكيف ترين موقع أدب الرحلات المكتوب اليوم وسط هذا التحوّل البصري..ما الذي يجعل الكلمة قادرة على البقاء في زمن الصورة؟ -هذا زمان الصورة و الصوت، زمنا تستولي فيه سطوة الصورة على نبل الكلمة، نعم تغيرت الأدوات في كل أشكال التدوين حل الصوت محل الجرس وحلت الصورة محل البلاغة، وامتدت يد العبث لتطال هذا الفن الإنساني الجميل.لكن تبقى لأدب الرحلات سطوة وسلطة متماهية لا يمكن لشيء أن يعبث بها أو أن يفتتها وأن حالت ألوانه أو غمرته أضويك العدسات و انقضت عليه الالتقاطات المتسارعة تبقى الكلمة بكل ما تملكه من رهافة وحساسية قادرة على المقاومة قادرة على الانتصار لنفسها، لا تزال الكلمة قادرة على أن تندس بكل شقاوة الأطفال وعبثهم في ثنايا العقل فتمنحك بسمة أو ذكرى أو صورة تعجز أعتى ما ابتدعته التكنولوجيا عن طمسه أو دحر انهماره. و الحديث عن أدب الرحلات يلزم الحديث عن السفر ، السفر بوصفه تجربه إنسانية ثقافية ثرية لا مثيل لها في حياة الإنسان ، فحينما يسافر الإنسان فهو يكون برحلة كشف مستمرة ، كشف لذاته كما كشف لذوات الآخرين فتبدأ بطرح الأسئلة ثم تبحث عن الأجوبة وحينها يولد كتاب عن أدب الرحلات ، ففي الأسفار ثراء لا يضاهى. يجعلك تؤسس لحيوات وقصص تتداعى في رأسك كما الأساطير. أما تجربتي في أدب الرحلات فإنها تأتي ممهورة بروح الكاتبة التواقة لالتقاط التفاصيل، ليست تجربة كسائر التجارب التي توثق الامكنة و الأحداث فحسب، إنما هي تغوص فيما هو أعمق من ذلك فتسبر عمق الأنفس وتبحر نحو العيون الشبه مفتوحة، تتفرس في الأيدي التي تقبض بتوتر على مقابض الحافلات، تتعلق في النوافذ التي تتدلى من البيوت التي تعبرها القطارات، تتعرف على الباعة والراكبين في المحطات الصغيرة الشبه مهجورة، تحصي عدد الألحفة المعلقة على شرفات مجهولة ، وتخمن عدد سكان المنزل الصغير المدفون في زقاق ضيق لا يُشرف على شيء، أو حتى تحاول أن تتتجسس على حياة تستتر خلف ستائر من الدانتيل الناعمة التي تفصح على ساكنيها، أكتب وأنا أتحسس ملامح الوجوه بيد راعشه وأدس الابتسامات في ثنايا الفضول لئلا ينكشف،