في كل عام يُطِل علينا عيد الميلاد المجيد بروحانيته السابغة، فيُعَطِّر النفوس بعبق الحياة، ويبعث الأمل بحياة كريمة، وتتجدد معه أسئلة عميقة تتجاوز الطقس الديني إلى البعد الثقافي والإنساني. فماذا يعني أن يحتفي العالم بميلاد رجلٍ تنكب الصعداء، ليغير الثوابت المتحجرة؟ يقرأ العالم سيرة “المسيح عيسى “ عليه السلام في سياقاتٍ متنوعة، من مسيحيةٍ ترى فيه محورًا للخلاص، إلى إسلاميةٍ ترفعه إلى مقام أولي العزم من الرُسُل: حيث جعل “لقرأن الكريم” من قصة “المسيح عيسى “ وأمه” الصديقة مريم” عليهما السلام موضع تلاوة وتدبر وخشوع، ورفع مكانتهما إلى مقامٍ فريد، وقرر أن “عيسى ابن مريم” هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأقر بآياته واعترف بمعجزاته، وجعله من المقربين. هذه الرؤية القرآنية تقدم “المسيح” ليس شخصية تاريخية فحسب، بل آية عظمى، ورسول مقرب، وكلمة سامية. أما أُمُهُ العذراء الصديقة “مريم” سيدة نساء العالمين - عليها السلام - فقد كانت لها مكانةً استثنائية، حيث حظيت بتفاصيل روحية طاهرة لا تُمنح إلا لأفاضل الرموز الربانية، بل وصفها “القرآن” بالاصطفاء والطهارة، وقدمها نموذجًا للعبودية الخالصة لله تعالى، والصبر أمام قسوة وتنمر المجتمع. ولا أدل على ذلك، أنها المرأة الوحيدة التي سميت سورة كاملة في “القرآن” باسمها. رأى “باروخ سبينوزا” المسيح عليه السلام حاملًا لفكرة أخلاقية كونية، وقرأ تعاليمه كتحرير للروح من الخوف ومن التعلق بالمظاهر. أما “تولستوي” فقد رآه عليه السلام “دعوة إلى اللاعنف والرحمة ومقاومة الشر بالخير”. مناسبة عيد الميلاد المجيد فرصة مواتية لغير المسيحيين لفهم خريطة الديانة المسيحية في تنوعها، حيث يمكن رسم المشهد العقائدي عبر ثلاث كنائس كبرى هي الكاثوليكية، والأرثوذكسية، والبروتستانتية. فالكنيسة الكاثوليكية تمثل أكبر الكنائس المسيحية عدديًا وانتشارًا. ثم تأتي الأرثوذكسية التي تعتبر الامتداد الشرقي التاريخي للمسيحية، وتقوم على بنية مختلفة عن الكاثوليكية، فهي عبارة عن كنائس وطنية (بطريركيات) تشترك في العقيدة الأساسية وتلتقي في المجامع، ولكل منها استقلال إداري. أما الكنيسة البروتستنتية فقد ظهرت في بداية القرن الميلادي السادس عشر، نتيجة حركة إصلاحية رفع لوائها الراهب الألماني “مارتن لوثر 1483 – 1546م” معترضةً على بنية الكنيسة الغربية الكاثوليكية، وسلطتها وتقاليدها. وأبرز شعارات هذه الحركة: العودة إلى الكتاب المقدس وإعلاء شأن الإيمان الفردي والضمير. وقد انبثق من هذه الحركة تيارات تبشيرية وشعبية واسعة الانتشار. ومع كل هذا، تبقى “المركزية المسيحية” واحدة، فالمسيح هو محور العقيدة، وإن اختلفت الكنائس في زوايا النظر إلى هذا المحور. وما هذه الاختلافات بين المذاهب المسيحية إلا إثراءً للقراءة المسيحية بوجهها العام، وجعلها قميصًا فضفاضًا يتسع لجميع المسيحيين في المعمورة. وقد لا يتفق المؤمنون في العالم على تعريف موحد للمسيح، لكنهم وبكل تأكيد يلتقون عند قيمه الكبرى المتمثلة بالرحمة والتسامح، وإنصاف الضعيف، ومقاومة القسوة، وإحياء الضمير. إن الاحتفال بعيد الميلاد يعتبر مناسبة دينية واجتماعية كبرى يحييها ملايين البشر المتبعون لرسالة “المسيح عيسى بن مريم” عليه السلام، حول العالم. يتم خلال هذا العيد إنشاد الترانيم الدينية، وتبادل الهدايا، وتناول عشاء الميلاد، واستقبال “بابا نويل”. وتحتفل أعداد كبيرة من غير المسيحيين ثقافيًا وسياحيًا بهذا العيد، ويعدونه عطلة رسمية في أغلب دول العالم. ويُعَد عيد الميلاد المناسبة الأولى من حيث حجم إنفاق الأموال في العالم. وتشير التوقعات إلى أن حجم الإنفاق الدولي خلال عيد الميلاد لعام 2024م تجاوز تريليون دولار. لهذا يستطيع الإنسان أن يرى في “المسيح عيسى “وأمه “مريم” عليهما السلام جسرًا وجدانيًا واسعًا بين المسيحيين وإخوانهم أتباع الديانات الأخرى، ورمزًا للطهر والتسليم، بعيدًا عن التنافس على المصالح الدنيوية. وفي وقتنا الراهن الذي تزداد فيه ممارسات العنف الرمزي واللغوي، تصبح مناسبات مثل الاحتفال بعيد الميلاد المجيد فرصة لتهذيب النفوس، وانتشالها من ركام الماديات الزائلة إلى سماء الروحانيات الطاهرة. ويبقى “المسيح عيسى عليه السلام” قنطرة خالدة للمحبة، ودربًا سالكًا للسلام.