قرعة التوازن والميزان.

في القضايا العامة ذات الأثر الاجتماعي الواسع، لا تُقاس العدالة بسلامة الإجراءات وحدها، بل بمدى شعور الناس بها واطمئنانهم إلى مسارها ونتائجها. فكلما كانت الآليات المرتبطة بحياة المواطنين ومعيشتهم أكثر وضوحاً ومرئية، ازدادت معها الثقة، وتراجعت مساحات الشك والقلق. ومن هذا المنطلق، فإن المبادرات العقارية التي تعتمد على القرعة في اختيار المستفيدين، ومنها مبادرة “التوازن العقاري”، تُعد من أكثر الملفات حساسية؛ لأنها تمس حقاً أساسياً يرتبط بالاستقرار الأسري والاجتماعي، وتلامس أحلاماً مؤجلة لدى شريحة كبيرة من المواطنين الذين انتظروا طويلاً فرصة التملك. ولهذا، فإن تطبيق آليات الإختيار العشوائي بصورة مباشرة أمام الجميع لا ينبغي أن يُفهم بوصفه تشكيكاً في نزاهة الإجراءات أو انتقاصاً من الجهود الرسمية القائمة، بل باعتباره اقتراحاً تطويرياً يهدف إلى تعزيز الاطمئنان العام، وترسيخ مبدأ الشفافية بوصفه ثقافة عملية لا مجرد نص تنظيمي. فالبث المباشر، حين يتم بضوابط واضحة تحفظ الخصوصية وتراعي الأنظمة، يمنح المواطن شعوراً أعمق بالعدالة الإجرائية، ويجعله شاهداً على المسار لا متلقياً للنتيجة فقط. ويمكن، على سبيل التطوير، أن تتم القرعة عبر اختيار آلي مباشر لأرقام هويات المؤهلين فقط، من خلال نظام إلكتروني مخصص يُعرض على الهواء مباشرة، بحيث تظهر النتائج لحظياً أمام الجميع دون تدخل بشري، وبطريقة حاسمة لا تترك مجالاً للالتباس أو الاجتهادات اللاحقة. مثل هذا الإجراء كفيل بأن يجعل النتيجة مكتملة بذاتها، ويحد كثيراً من الحاجة إلى فتح باب الاعتراضات، لأن مسار الاختيار يكون واضحاً منذ لحظته الأولى وحتى إعلان الأسماء. وحين يرى الإنسان كيف تُدار الفرص أمامه، يصبح أكثر تقبلاً لأي نتيجة، حتى وإن لم تكن في صالحه، لأن القناعة تولد من المشاهدة أكثر مما تولد من البيانات. وقد لاحظ بعض المتابعين، ومنهم كاتب هذه السطور، غياب أسماء مواطنين متقدمين في السن ولم يسبق لهم التملك طوال حياتهم، وهو أمر لا يُطرح هنا على سبيل الاعتراض أو الاعتراض الضمني، بل في سياق تساؤل إنساني مشروع يتولد طبيعياً عند غياب الصورة الكاملة للإجراء. فوجود حالات كهذه يفتح باب التساؤل حول كيفية ترتيب الأولويات، لا للتشكيك فيها، بل لفهمها واستيعاب منطقها بصورة أوضح. ومن تمام الشفافية والوضوح أيضاً أن يُعلن عن أسماء المؤهلين قبل إجراء القرعة، ثم تُعلن أسماء الفائزين بعدها بشكل متاح وواضح، فليس في ذلك ما يعيب، ولا ما يستدعي الحجب أو التحفظ، ما دامت الإجراءات نظامية والفرص متكافئة. بل إن إعلان الأسماء يمنح العملية مصداقية أعلى، ويجعل المجتمع شاهداً على تسلسلها منذ بدايتها وحتى نتائجها النهائية، خصوصاً أن الفائزين سيباشرون لاحقاً التزامات مالية وتعاملات ظاهرة بحكم طبيعة الاستثمار العقاري، الأمر الذي يجعل إعلان أسمائهم جزءاً طبيعياً من الشفافية لا انتقاصاً من الخصوصية. كما أن هذا الإعلان يقطع الطريق على التأويلات، ويمنح غير الفائزين قناعة أعمق بعدالة المسار حين يرون أسماء المؤهلين ثم النتائج وقد خرجت من الإطار نفسه دون غموض أو انتقاء. إن بث القرعة بشكل مباشر، مع وضوح آليتها وإعلان قوائمها، كفيل بأن يختصر كثيراً من الاجتهادات غير الدقيقة، ويغلق باب الوساوس التي قد تتسلل إلى نفوس من لم يحالفهم القبول. فالعدالة، في جوهرها، ليست فقط في صحة النظام أو دقته التقنية، بل في قدرة المجتمع على رؤية هذا النظام وهو يعمل، وفي شعوره بأن الفرص تُدار أمامه بروح من الوضوح والمسؤولية. وكلما اقتربت الإجراءات من الناس، واطمأنوا إلى مسارها، ارتفعت قيمة المبادرات الوطنية، وتعزز حضورها الإيجابي في الوعي العام، وأصبحت نتائجها أكثر قبولاً، حتى لدى من لم تشملهم، لأن الثقة حينها تكون قد سبقت النتيجة، ومهّدت الطريق لتقبلها بهدوء وراحة بال.