ذاكرة تبحث عن الدفء.

كلما تسارعت خطى العصر، وازدحمت حياتنا بالمشاغل والأعمال  وحتى مع مظاهر الراحة والرفاهية التي نعيشها الا انه تمر بالكثير منا لحظات تعود فيها  قلوبهم وعقولهم  بالذكريات إلى الوراء قليلا، في حنين للماضي، حيث ذكرياتهم التي يرون فيها البساطة والصدق، ودفء العلاقات الذي نفتقده اليوم.  حنينهم إلى الماضي تعبير عن توق الإنسان إلى ما يمنحه الطمأنينة والمعنى ويعيده إلى ذكريات انطبعت في الأذهان  وهذا ما يعرف في علم النفس بمصطلح  « النوستالجيا « اي الحنين إلى الماضي و الشعور الدافئ الممزوج بالحزن عندما نتذكر أيامًا مضت، أو أشخاصًا رحلوا، أو أماكن كانت جزءًا من حياتنا ولا يمكن لها أن تعود،  النوستالجيا حنين عاطفي عميق إلى الماضي، غالبًا إلى فترة يراها الإنسان أجمل أو أبسط أو أكثر دفئًا من حاضره.  انها تلك اللحظة التي يفاجئك فيها صوت قديم، رائحة معينة ، أغنية، مكان، أو مشهد فتعود بك الذاكرة سنواتٍ طويلة، وتستيقظ في داخلك مشاعر كانت نائمة. يمكن أن تكون النوستالجيا فرحًا ممزوجًا بحزن: لأن الذكرى جميلة، لكن الزمن لا يعود. او تكون بحثًا عن الذات في غياهب مراحل كانت تبدو أوضح وأقرب للقلب. او ترميمًا للروح حين يعود الإنسان إلى ذكرياته ليجد فيها السلوى كما قال الشاعر : «رُبَّ يومٍ بكيتُ منه فلمّا صرتُ في غيره بكيتُ عليه».   ويصبح الحنين للماضي رغم قساوته احيانا شعورا يراود الكثير رغم نعيم الحاضر ، كما قالت ميسون  الكلبية منذ قرون بعدما  تزوجت بمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، وانتقلت معه من بادية بني كلب إلى عاصمة الخلافة دمشق، وأسكنها قصره، فكانت دائمة الحنين والشوق إلى خيمتها وعباءتها ومسقط رأسها، وثقلت عليها الغربة والبعد عن قومها رغم القصور والحدائق  والجواري والرفاهية التي كانت تعيشها  ، فكانت إذا شكت قال لها معاوية: «إنك في ملك عظيم وما تدرين قدره». ثم سمعها ليلةً تنشد شعراً: لبيت تخفق الأرياح فيه أحب إليّ من قصر منيف ولبس عباءة وتقرّ عيني أحب اليّ من لبس الشفوف وأكل كسيرة في كسر بيتي. أحب إليّ من أكل الرغيف وأصوات الرياح بكل فج أحب إلى من نقر الدفوف وكلب ينبح الطرّاق دوني. أحب إلي من قط أليف بهذه الأبيات عبّرت الشاعرة عن قيمة الدفء الإنساني  الذي كانت تشعر به  في باديتها مع قسوة الحياة مقابل برودة المظاهر في نعيم القصر الذي تعيشه،  الحنين إلى الماضي ليس رفضًا للتقدم، ولا رغبة في استرجاع قسوة العيش. إنه بحث عن صدق العلاقات، وبساطة المودة، ودفء الروابط الإنسانية. في زمن  فقد منها الكثير  زمن يفسر فيه التعاطف بانه ضعفًا، والرحمة تهاونًا، والنصب شطارةً،  لذا تبقى ذكريات الماضي  لدى الكثير رمزًا لوقت يراه أكثر صدقًا مع نفسه ومع الآخرين. التحدي اليوم هو أن نصنع حاضرًا يحمل روح الماضي. أن نوظّف التكنولوجيا والرفاهية دون أن نسمح لها بابتلاع إنسانيتنا. فالماضي ليس غاية بحد ذاته، بل مرآة تذكّرنا بما هو أثمن من كل الماديات.  الحنين إلى الماضي ليس هروبًا او خصام مع  الحاضر،  بقدر ما هو محاولة لملء فراغ حسي قد تشعر به في غربة المتغيرات المتسارعة لنمط الحياة . .