قوّة الكلمة.. الأدب جسر الإنسانية.

في البدء كانت الكلمة، وكان لها سلطان لا يُضاهيه سلطان؛ لا على الجسد، بل على الروح، والقلب، والوجدان. الكلمة ليست حروفًا مجرّدة تُكتب أو تُنطق، بل هي روح تحمل في طيّاتها مشاعر وأفكارًا وتاريخًا وحضارة. هي كائن حيّ يتنفّس داخل القارئ، ويعيد تشكيل رؤيته للعالم. والأدب، بوصفه فنًّا راقيًا للكلمة، ليس مجرّد تسلية أو زينة ثقافية، بل هو قوّة تغيير، ومرآة تعكس أحلام البشر وخيباتهم، آمالهم وأحزانهم. وكما قال ألبرتو مانغويل: «الأدب هو الطريقة التي يقول بها الإنسان: أنا كنت هنا، شعرت، وتأمّلت، وكتبت.» الأدب، بمختلف أشكاله: من شعرٍ وروايةٍ ومقالةٍ ونصٍّ تأمّلي، هو أحد أبرز تجلّيات قوّة الكلمة. ليس لأنه يوثّق الأحداث فقط، بل لأنه يمنحها حياة أخرى؛ حياة مشبعة بالمعنى والدهشة. الأدب لا يصف الأشياء، بل يُعيد تسميتها: يجعل من الوردة رمزًا للحب، ومن الطريق رحلة للذات، ومن الغياب حضورًا لا يُحتمل. ما يجعل الكلمة الأدبية قويّة هو قدرتها على خرق الزمن. فقصائد امرئ القيس ما زالت تُقرأ، ونصوص تُترجم، وخطب الجاحظ ما زالت تُدرّس. لأن ما كُتب بقلبٍ صادق يعبُر، ولا يشيخ. وقد قالت آناييز نين: «نكتب لنعيش مرّتين، مرة في الواقع، ومرة في اللغة». في عالمنا المعاصر، حيث تتسارع الأخبار وتُستهلك الكلمات في العناوين السريعة، يظلّ الأدب ملاذًا للبطء الجميل، للتأمّل العميق، ولفتح الأسئلة الكبرى. من خلال الأدب نتعرّف على أنفسنا، على الآخر، وعلى العالم من زوايا لا تتيحها اللغة اليومية. فالنصّ الأدبي لا يقدّم معلومة فحسب، بل يمنحنا تجربة شعورية كاملة. ولعلّ أعظم ما يقدّمه الأدب للإنسان هو النجاة الداخلية: تلك القدرة العجيبة للكلمة على تضميد الجراح النفسية، أو على الأقل تسميتها، وفهمها، وتفكيكها… على أنقاض الذات، يأتي نور اللغة. قوّة الكلمة تكمن في أنّها تزرع أثرًا لا يُمحى. قارئ وحيد قد ينقلب وعيه رأسًا على عقب بعد قصة قصيرة. وقد يتغيّر مصير إنسان بسبب بيت شعر أو اقتباس عابر. وقد تقوم ثورة بسبب مقالٍ كُتب بجرأة. كما قالت فرجينيا وولف: «لا شيء يشعل القلب مثل جملة وُلِدت من صدق.» الكلمة إذًا، ليست أداة فقط، بل موقف، ومسؤولية، وفن، وضمير. والأدب الحقيقي هو ذروة هذا الفن، وهذا الضمير. في زمن الضجيج الذي لا يهدأ، ما أحوجنا إلى الأدب… إلى الكلمة التي لا تصرخ، لكنها تهزّ القلب. إلى النصّ الذي لا يمرّ، بل يترك أثرًا لا يُمحى. وقد قال عبد الوهاب المسيري: «في البدء كانت الكلمة، وما زالت هي بداية كلّ شيء».