مبدعون وراء الكواليس.
أثارت الكاتبة البريطانية “جي كيه رولنغ”، مؤلّفة سلسلة روايات الأدب الخيالي الشهيرة “هاري بوتر”، ضجّة في الأوساط الثقافية، حينما كتبت رواية “نداء الوقواق” باسمٍ مُستعار مُذكّر هو “روبرت غالبريث”. صدرت الرواية في عام 2013 وبيع منها عدد متواضع جدّاً (ثلاثة آلاف نسخة تقريباً)، قبل أن تُكتشف الحيلة وتفضح صحيفة “التايمز” البريطانية السرّ؛ لاشتباهٍ في هويّة المؤلّف الجديد، خاصّةً أن الوكيل الأدبي الذي تعامل معه هو نفسه الوكيل الأدبي الذي يتعامل مع “رولنغ”. وقد برّرت الكاتبة ما أقدمت عليه بأنها أرادت أن تتحرّر من التوقّعات المُسبقة، وتُجرّب الكتابة في صنفٍ أدبي جديد (رواية بوليسية)؛ فتتلقّى آراء القُرّاء بصراحةٍ غير مُتحيّزة لمكانتها الأدبية.. إلا أن بعض المُعلّقين (المشاغبين) لمّحوا إلى أن الأمر كلّه مُدبّر، وأن الكاتبة فعلت هذا عمداً كي تُثير زوبعة تلفت الأنظار إليها بعد تواريها، وأن كشف هويّة مؤلّف الرواية الحقيقي جاء بإيعاز منها! هذا الحدث الثقافي الفريد ربما يقودنا إلى النظر للأسباب الأخرى التي قد يلجأ إليها بعض الأدباء أو الكتّاب أو الشُعراء الغربيين حين يكتبون بأسماءٍ مُستعارة؛ فمؤلّف رواية “1984” الإنجليزي الشهير “جورج أورويل” مثلاً اسمه الحقيقي “إيريك بلير”، وقد كان يكتب باسمه المستعار تجنّباً لإحراج عائلته بكتاباته السياسية الجريئة. وكذلك الشاعر التشيلي “بابلو نيرودا”، الحائز على جائزة نوبل، كان والده منزعجاً من رغبة ابنه في الكتابة عندما كان فتى، لأسباب وصفها الشاعر بأنها عائلية، وحسناً فعل، لأن اسمه الحقيقي كان طويلاً وصعب النطق. أما أستاذ الرياضيات الرصين الإنجليزي “تشارلز دودجسون”، فلم يُرد أن يعرف العالم بهويّته الأدبية، فنشر عمله الشهير: “أليس في بلاد العجائب” باسمٍ مُستعار اشتُهر به وهو “لويس كارول”. وقد استخدم الكاتب الأمريكي الشهير “مارك توين” هذا الاسم المُستعار، في كتاباته الصحفية ثم الأدبية، فذاع صيته وغطّى على اسمه الحقيقي وهو: “سامويل كليمينز”، الذي لا يعرفه إلا القليلون. كما أن في تاريخ الأدب الأوروبي نساء اختفين خلف أسماء مستعارة رجالية؛ فهناك الروائية الإنجليزية “شارلوت برونتي”، التي نشرت أهم أعمالها: “جين اير” باسمٍ مستعار هو “كيور بيل”، وكذلك فعلت شقيقتها “إيميلي برونتي” مؤلّفة رواية “مرتفعات وذرنج” تحت اسم “إيلي بيل”.. كلّهن وغيرهن، فعلن ذلك توقّياً من المناخ الاجتماعي العام في القرن التاسع عشر، الذي كان ينظر بدونيّة إلى كتابات النساء، ولا يتوقّع منهن سوى كتابة القصص العاطفية! ومنذ عصور الشعر الأولى عند العرب، كانت الأسماء المستعارة معروفة عندهم، وقد تطرّق لها العديد من المؤلّفين في كٌتبهم؛ من أمثال “لسان العرب” لابن منظور، و”التعريفات” للجرجاني، و”ألقاب الشُعراء” لبشار بكور. وكانت الأسماء المستعارة في مُعظمها ألقاباً أُطلقتْ على الشعراء لدلالات مُعيّنةٍ غلبت على أسمائهم الحقيقية، فالشاعر الأموي “همّام بن غالب” مثلاً سُمّي بالفرزدق لضخامة وجهه وتجهّمه بسبب إصابته بالجدري في صغره، وسُمّي الشاعر العباسي “عبدالسلام بن رغبان” بديك الجِنّ لأن عينيه كانتا خضراوين مثل لون بعض أنواع الديوك، والشاعرة المخضرمة “تماضر بنت عمرو” لُقّبت بالخنساء لخَنسٍ في أنفها، وهو انخفاض في قصبته تشبيهاً بالظباء.. وغيرهم. أما في العصر الحاضر فقد انتشرت الألقاب والأسماء المستعارة التي يستخدمها بعض الكُتّاب والأدباء والشُعراء لأسباب عديدة، وفي ذلك يقول الدكتور “أبو بكر باقادر”: “ إن بعضها يتعلّق بالأدب وتجليّاته الاجتماعية والثقافية، ومنها ما يتعلّق بأسباب سياسية فكرية لا يرغب أن تحدّ من حُريّته الشخصية في الكتابة”. وقد ألّف الأستاذ “محمد القشعمي” كتاباً بعنوان “الأسماء المُستعارة للكُتّاب السعوديين”، استقصى فيه الأسماء الحقيقية للكُتّاب السعوديين الذين يتوارون خلف الأسماء المُستعارة، ووجد أن حصيلته من تلك الأسماء، سواء مما نُشر في الصحافة أو الكُتب أو مما زُوّد بها، ما يُقارب من أربعمائة اسم مُستعار. وقال الأستاذ “القشعمي” في مُقدّمة كتابه: “إن كشف المستور من تلك الأسماء، ليس القصد به الفضح أو التّشهير بصاحبه، بل ذِكره وشُكره، فله الفضل في الجهر بالقول والرأي، في وقتٍ قد لا يُستحبّ الجهر به، فمثلاً: الدعوة لتعليم البنات قبل إقرارها بشكلٍ رسميّ، أو الكتابة عن أهمية الأخذ بالتوقيت الزوالي واستبدال التوقيت الغروبي به، وعن أهمية الأخذ بكلّ جديد من مُخترعات أو مُكتشفات، والتي كان المجتمع لا يستطيع الأخذ بها واعتبارها بدعة.. وغيرها من المواضيع”.