كتاب في أدب الرحلات ترجمه عن الفرنسية مصطفى الورياغلي، عن رحلة رافق الطبيب أدولف مارسين فيها وزيرا موفدا من الدولة الفرنسية عام ١٨٨٢م حيث تم تكليفه بالعمل سفيرا لدى البلاط السلطاني. كتب الطبيب في مقدمته للرحلة أنها حدثت في وقت اتجه فيه طموح أوروبا نحو هذه الجهة من أفريقيا، وقد استبد بها تنافس غيور وطارئ للسيطرة على هذا الجزء من العالم، والذي ظل مهملا ومتروكا إلى ما سماه “ عزلته العقيم “ ويقصد بهذا أنه كان بعيدا عن راية الحضارة، الكاتب يعتقد أنه وجماعته قادمون يحملون أنوار الحضارة، ولكنه يشير إلى أن عزلة مراكش- كمثال على المناطق غير البحرية- ظلت تحميها من العمليات العدوانية التى أشعلها تنافس القوى (المتحضرة) التي أرسلت طلائعها من الرحالة والمكتشفين والدبلوماسيين (الشجعان) ليسبروا أسرار المغرب. وهو يعتقد أن إمبراطورية السلطان ٱيلة لسقوط وشيك. وقائع الرحلة تظهر احتراما مبالغا فيه من جانب السلطان وشركائه من القادة تجاه البعثة، في الحقيقة كان طلبا للرضا من جانب ضعيف نحو ممثلي حضارة قاهرة جاذبة تمارس تفوقا واضحا. يسبق وصول البعثة إلى أي منطقة على الطريق استعدادات لتكريم الوفد حيث يحتشد فيه كل القادة في المنطقة للاستقبال مع حرس شرف وفرقة موسيقية، وكل هذا ليس مألوفا في استقبال السفراء، كذلك يرسلون إلى البعثة المؤن الوفيرة التي كانت تدهش ببذخها ووفرتها أفراد البعثة، وما هي في الحقيقة إلا غصبٌ من الأهالي، إذ يُفرض على كل منهم نصيبٌ حسب تقدير ثروته، وعادة ما يُقتطع هذا من أرزاقهم الضرورية، يستمتع أفراد البعثة بما لذ وطاب. و يفيض الكثير. يهيئ موظفو السلطان للبعثة أفضل موقع للإقامة المترفة بمقاييس ذلك العصر، وإن أخطأ أحد بحقهم أو فكر في إيذائهم فإن القادة المغاربة يظهرون بطشا غليظا تجاه من أخطأ ولو بغير قصد من مواطنيهم، تستغرب أن رجال الدولة يكثرون من التذلل أمام أعضاء البعثة. ورغم كل هذا كتب الطبيب: إن السفر الطويل قد أصبح يسيرا، ترحل نحو أمريكا وساحل أستراليا والصين بكل اطمئنان، لا يقلق المرء من حدوث ما هو غير متوقع، كل شيئ منظم، لكن الأمر هنا مختلف، سنعبر بلدا يكاد يكون مجهولا، وسنعيش وسط ساكنة شبه بربرية، متعصبة لدينها، خاضعة خضوع العبد لتقاليدها وأحكامها المسبقة، غريبة عن عاداتنا، غير مبالية، إن لم تكن عدوة لفتوحات حضارتنا الأوروبية الثمينة والنافعة. وقد تبين أن كل تلك المخاوف أوهام، فإن تعامل الناس على كافة مستوياتهم كان حافلا بالود. يتمتع السلطان بسلطة مطلقة، ويقيم في مراكش أو مكناس أو فاس، وتنتقل الحكومة معه حيث يقيم، وله إضافة إلى السلطة هيبة رفيعة باعتباره أحد أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يُسمح لممثلي الدول الأجنبية بالإقامة في المدن الداخلية، فيقيمون في طنجة ويتواصلون مع الحكومة عن طريق وزير الأمور البرانية (الخارجية)، وهذا بدوره يعود إلى السلطان في كل صغيرة وكبيرةٍ، مما يجعل التواصل بطيئا. الوزير أورتيغا يذهب إلى مراكش لتقديم أوراق اعتماده سفيرا لفرنسا، يقول الكاتب أن النظام السياسي في المغرب يقوم على أن السلطان هو كل شيء وكل أحد سواه لا شيء، يجب على الجميع الانحناء أمام إرادته المطلقة. والسلطان عالم بأمور الشريعة ولكنه لا يعرف شيئا عن شؤون السياسة العامة ولا يفهم الجغرافيا ولا يعرف قراءة الخرائط. تبدأ الرحلة بالانتقال عبر مضيق جبل طارق من سبتة، عبر بواخر شراعية صغيرة تقطع عشرة أميال في أربع ساعات إلى طنجة، المدينة ذات الشوارع الضيقة المتسخة والملتوية، ككل مدن المغرب ، إذا التقى حماران كان على أحدهما أن يلتصق بأبواب الدكاكين القائمة على جانب الشارع ليمر الحمار الآخر، باستثناء مدينتين، مازاغان وموغادور، حيث تتسع الشوارع وتصبح نظيفة. دكاكين طنجة ضيقة منخفضة السقوف، بالكاد تتسع لنفر واحد، هناك ساحة يقام فيها سوق أسبوعي، كذلك يكثر الدلالون الذين يصطادون زبائنهم إلى بيوت تباع فيها أسلحة ومصنوعات محلية، النساء يبعن الخضار والألبان، ويعتمرن قبعات محيطها واسع جدا، تغنيهن عن المظلة الواقية من الشمس، إذا لا يجوز استخدام المظلة إلا للسلطان بإعتبارها رمزا من رموز السيادة،وفي نهاية السوق مقهى للغناء، يجلس فيه المستمعون ساكنين ساعات طوالا بغير حراك وقد استغرقتهم أدخنة الحشيش. ليس هناك مظاهر لفنون العمارة إلا في القصبة، والقصبة في كل مدينة هى قلعة فيها قصر الحاكم (الباشا أو السلطان) . تنفرد طنجة بوجود أماكن يستمتع فيها الأوروبيون مثل بعض الحدائق التي تتبع مفوضيات أجنبية وتحوي أشجارا نادرة، تطل على المحيط في منظر جذاب. يقودك التجوال إلى” رأس سبارطيل “ ٱخر نقطة في أفريقيا حيث يلتقي المحيط الأطلسي بمضيق جبل طارق. تصل السفينة الحربية “ دوسيكس” إلى طنجة لكي تحمل الوفد إلى “مازاغان”، وهي مدينة أقامها البرتغاليون على الساحل الأطلسي للمغرب عام ١٥٠٢م واستبقوها تحت نفوذهم ثلاثة قرونٍ إلا قليلا وتعرف اليوم بمدينة “الجديدة”. عند وصول الوفد يكون الاستقبال الرسمي على أرفع مستوى، بينما كان الوفد يستعرض صفوف الجنود المصطفين للتحية، لاحظ أن بعضهم يؤدي التحية بالبنادق، وبعضهم يمسكون في أيديهم سيوفا في هيئة التحية، ملابسهم العسكرية متنوعة وبئيسة، منهم حافي القدمين ومنهم المنتعل، وقد يعتمرون شاشية إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، العسكري ليس غنيا في هذا البلد الجميل، فهو مسكين مضطر أن يعمل من أجل أن يعيش ويكتسي، لا أجرة ولا تموين، كل ما يحصل عليه هو منحة عينية لا تسد رمقا. البيوت في مازاغان تتصل سطوحها بعضها البعض دون حواجز، يتزاور الناس دون أن يخرجوا من بيوتهم. يستقبلهم حاكم المدينة استقبالا كريما، هناك موضوع معلق، فإن أحد التجار الفرنسيين سُرقت بعض بضاعته، السارق هو المخازني، كلمة المخازني تطلق على موظفي المخزن، والمخزن إشارة الى الحكومة المغربية، ما تمت سرقته يساوي ٧٥٠ فرنكا، يطالب السفير بالتعويض ، يرد الحاكم ردا لطيفا، يظهر أنه يريد شراء الوقت ، السفير يصر علي أن التسديد يجب آن يكون خلال هذه الزيارة ، ويعد بأن يثني علي الحاكم عند السلطان إن تم التسديد، في اليوم التالي جاء الحاكم وأركان إدارته لوداع السفير، تجاهله هذا الأخير بل ورفض مصافحته، حاول الحاكم الإعتذار مجددا، يقول الفرنسي: انتهى أمري معك، لم أعد أعرفك، سأتوجه مباشرة إلي السلطان، مولاك يعرف أن فرنسا حين تدافع عن قضية، فإنها تكون دائما قضية حق وعدالة، يرتاع الباشا، ينحني ويتذلل ، يرد الفرنسي : إما أن تؤدي المبلغ المطلوب في الحال، وإما أن أطالب بعزلك الفوري، يتراجع الحاكم، يرسل من يأتي بالمبلغ المطلوب، فيسلمه الفرنسي لصاحب الدين يدا بيد وعلى الملأ، كان ذلك إذلالا عظيما للحاكم ، هنا يؤكد السفير للباشا أنه لن يخبر السلطان بما حدث، وعلى سبيل المفارقة يتحدث هنا الكاتب عن القسوة التي تُعامل بها الحيوانات التي جاءت لتحمل الأمتعة والوفد إلى غايته، المسحوقون يفرغون غضبهم على الدواب المسكينة وعلى الموظفين الأدنى رتبة. يسير الوفد في طريقه إلي مراكش، أياما وليال، أجواء شهر مارس حارة، ينطلقون مع انفلاق الصبح ، منظر بهيج، يصف الكاتب الاراضى و الوديان و النهيرات التي يمرون عليها ، أراضٍ خصبة تغطيها الغابات و أخري قاحلة ، وكلما مروا بديار قبيلة خرج رؤساؤها للترحيب وتقديم المؤنة الباذخة المعتادة، يقوم الجنود في معظم المناطق بتقديم عرض يصفه الرجل بالعرض الفانتازي لمهارات الخيول والسلاح ، أرديتهم تخفى الفقر، في الطريق بعض المقامات لمن يُسمونهم أولياء، يعلق على تلاميذ الكُتاب الذين يدرسون فيها بأنهم سيصبحون مفسرين للقرآن ، لا يدرسون الهندسة والرياضيات، الإناث لا يتعلمن، الأنثى تعد لإكمال الأعمال التي لا تستطيعها الدواب، لا فرق بينهن وبين جواري أزواجهن، إحساسهن بالدونية - على رأي الكاتب - إحساس أصيل، فهن لم يعتدن على المشاعر الإنسانية السامية. أحيانا يتكاثر المتسولون حول الموفدين بأسمالهم البالية، بعضهم بغطاء رأس يعني أنهم مصابون بالجًذام، وعليهم أن يُظهروا ذلك حتى لا تنتقل أدواؤهم إلى الناس. قبل وصولهم مراكش بقليل التحق بهم أفراد البعثة الفرنسية التي ألحقتها فرنسا بحاشية السلطان، لباسهم الأنيق المخالف للباس عسكر فرنسا وهيئتهم المنعمة توحي بأنه لا شيء يوقظ شوقهم إلى بلادهم البعيدة. أرادت الحكومة الفرنسية أن يكون لها حظوة عند السلطان، وأن تدرب جنوده على استخدام المدافع، لكن الكاتب يعتقد أن أهم ما أرسلوا من أجله هو أن يعلموا هذه الشعوب الجاهلة معرفة فرنسا واحترامها، ولذا فهو يعترض على أن يستبدلوا هذه الملابس الفاخرة بلباس العسكر الفرنسيين المتواضعة التى تشير إلى فرنسيتهم. ويدعم رأيه بأن مبتعثي الصين للتدريب في فرنسا، مع أنهم حذقوا عادات الفرنسيين وأذواقهم، إلا أن أحدا منهم لم يتخل عن لباسه الوطني وذلك بتعليمات من بلده. مراكش المدينة واسعة المساحة تتخللها المزارع، وفيها نظام ري جيد، لقاؤهم بالسلطان كان طريفا، أصر الفرنسي على تغطية رأسه خلال مراسم تقديم أوراق اعتماده، لا أحد يُسمح له بتغطية رأسه بحضرة السلطان، لكن المغاربة تنازلوا بعد أن هدد السفير بأنه سيرسل أوراق اعتماده مع الصدر الأعظم ولن يذهب بنفسه، تجاوب السلطان مع كل مطالب الوفد الفرنسي، أقيمت لهم مٱدب التكريم في بيوت كبار القوم، البيوت من الخارج لا تختلف عن غيرها من بيوت العامة، لكن داخلها يحفل بفنون الزخرفة الإسلامية وبالثراء. زاروا حارة اليهود، حولها سور يغلق في الثامنة مساء، يقول الكاتب إنهم مضطهدون، ولكنه يؤكد أنهم يسيطرون على اقتصاد البلد، فكيف يتفق هذا مع الاضطهاد؟ يعقد يوم لبيع العبيد، يصف الكاتب السوق، تراجيديا إنسانية مخيفة، ولكنه يعقب أن الإماء مثل النساء مخصصات لشهوات الرجال. كذلك يصف مكان احتجاز مرضى الجذام، الجهل بالطب أدى إلى احتجاز مرضى الأكزيما والصدفية ظنا أنهم مرضى بالجذام، وقد يقضون طوال العمر في هذا السجن، أما السجن والسجناء فمأساة إنسانية أخرى. وبكل الغطرسة الفرنسية يتحدث عن الفرق الحضاري بيننا وبينهم، في رأيه نحن أنصاف برابرة، لسنا مؤهلين للتحضر، لقد استمتع بالرحلة وبالكرم الذي قوبل به، لكن نظرته الدونية لم تتغير. وما لبث الزمان أن استدار دورته وتحقق ما كان متوَقعا، انهارت الدولة ووقعت في أيدي المستعمر، فقد كانت كما ذكر الفيلسوف الجزائري قد انحدرت إلى درك “ القابلية للاستعمار”.