أهداني مشكوراً الأستاذ إبراهيم البليهي كتابه الأخير (إخفاق التعليم.. المتفردون بالريادة والقيادة والإبداع) ط1، 2026 دار الروافد الثقافية، بيروت، مع كتابيه الآخرين (الإبداع والاتباع) و(عبقرية الاهتمام التلقائي) والرابع تقديم وتحرير لصدیقه محمد حكمون من المغرب (هكذا تكلم البليهي) كتاب سيغير نظرتك لنفسك وللعالم! نعود لكتابه الأول والذي جعلني أقرؤه بشغف. فهو يضم دراسة موجزة لعدد من الرواد والقادة منهم 16 سعودياً و22 عربياً و145 أجنبياً. كل واحد منهم خصص له من صفحتين إلى ثلاث، باستثناء القلة مثل محمود درويش الذي خصه بأربع صفحات والذي يليه بالترتيب ريتشارد باکمنستر فولر فقد تحدث عنه بخمس صفحات. أعدت قراءة الكتاب بعد قراءتي من كتب عنهم من المملكة ثم من العرب، ثم عدت لقراءة الكتاب كاملاً، مما أعجبني واستوجب علي أن أقول ما أعتقد أنه يستحقه من تقدير وثناء. قبل ذلك يمكن الإشارة إلى أنني قد زاملت الأستاذ البليهي عندما كان رئيساً لبلدية منطقة حائل، وكنت وقتها مسؤلاً عن مكتب الرئاسة العامة لرعاية الشباب (1398-1401هـ) وكانت لقاءاتي معه وقتها رسمية في حفلات أو حضور محاضرات وغيرها. قدم للكتاب مؤكداً رأيه «إن الشهادات التعليمية مثل جواز السفر، تعطي الدارس بعض المفاتيح من أجل أن يكتسب مهارة الأداء في المجال الذي تخصص فيه... وما يهمني هنا هو لفت النظر إلى إخفاق التعلم اضطراراً... إن هدفي هنا من هذه المقالات القصيرة، هو شبيه بالضغط على مفتاح أجراس الإنذار من أجل الإيقاظ والحفز... إن التعليم النظامي الجمعي ليس معياراً للكفايات المعرفية والفكرية، فالعلم لا بد أن يكون شوقاً عميقاً من أشواق الذات، أما بدون الشغف بالمعرفة والرغبة بالعلم فإن الذهن لا يمكن إرغامه...» بدأ بمقالات قصيرة عن الرواد الذين أبدعوا واخترعوا واكتشفوا دون شهادات علمية بل اكتفوا بما قرؤوه واستوعبوه بدءاً بمؤسس علم الوراثة غريغور مندل، وجوتنبرج الحداد الذي حقق مالم يحققه أي عالم هي المطبعة. واستمر يستعرض أسماء من مختلف القارات وبرواد الاختراعات مثل ميخائيل كلاشنكوف وليوناردو دافنشي، ومؤسس علم الأحياء الدقيقة أنطوني ليفنهوك، ومؤسس علم الاجتماع أوغست كونت، وليو تولستوي، ومؤسس الفن الروائي ميغيل دي سرفانتس، والذي خصه بأربع صفحات ونصف، والفيلسوف بليز باسكال، وجان جاك روسو الذي علم نفسه وأبدع فهو فيلسوف وروائي ومنظر وكاتب وموسيقار، ومن إعجابه به قال: «إن المكانة الفلسفية والفكرية والأدبية والابداعية لا تليق بها مقالة قصيرة كهذه، فليس هدفي التعريف به وبفكره وإبداعه، وإنما الهدف تقديم مثال عظيم على أن التعليم لا يصنع المبدعين، وإنما أقصى ما يحققه تهيئة الأجيال للعمل، مع أنهم يأتون إلى مواقع العمل بدون مهارات عملية، حيث يلزمهم الاهتمام لكي يكتسبوا الكفايات العملية من الممارسة والتعلم ممن سبقوهم في نفس المجال، ومع ذلك خصص له خمس صفحات. وهكذا استمر في الحديث عن العلماء والرواد لـ 183 من مختلف الجنسيات من أنحاء العالم. كرر كلمة (السوابق عوائق) لأكثر من عشرين مرة، منها عند ذكر جورج بول المبدع في الرياضيات والمنطق قال: «.. ويعتبره مؤرخو العلم مثالاً عظيماً على عبقرية علمية لم تمر عبر القنوات التعليمية النظامية، فلم يمنعه حرمانه من التعليم النظامي من أن يكون إسهامه العلمي عظيماً، بل لأن السوابق عوائق، فربما أن نجاته من التأطير والتطبيع التعليمي هو الذي أبقى عقله مفتوحاً فأبدع..» . ومن تحولات البليهي قال وهو يتحدث عن حمد الجاسر: «.. أما المفارقة فهي أنني في شبابي كنت أضيق باهتمامه الدقيق والشديد بالمواقع والحوادث، وبكل ما يتعلق بطبيعة وتاريخ وسكان الجزيرة العربية، كنت أعتقد أن علينا صرف كل طاقتنا لفهم علوم العصر وأسباب تقدم الغرب.. ولكني بعد أن نضجت أدركت الآن أن تصوراتي القديمة كانت ساذجة، وكانت نتاج الإنبهار الشديد بحضارة العصر، والتعطش الشديد الذي لا يرتوي إلا من نبع يتعلق بحضارة العصر.. لكن هذه المعرفة لا تغني عن الاهتمام بأرض الجزيرة والتعريف بالرجال والمواقع والأحداث والنباتات، فتلك لا تغني عن هذه، فمعرفة الواقع مهمة للغاية» . وفي حديثه عن سلامة موسى قال: «.. حين قرأت هاتين القصتين تذكرت مرحلة مبكرة، حينما كنا طلاباً في المرحلة المتوسطة، كان التحذير من سلامة موسى يأتي صارخاً ومتكرراً، وكأن كتب سلامة موسى هي الوباء الفكري الذي يمكن أن يصيب عقل الأمة بالعطب، ونحمد الله أن أيام الانغلاق قد ولّت». استشهد ببعض الرواد القدامى مثل: هيرو المخترع الإغريقي، وأرخميدس، وهيرودوت، وغيرهم ولم يذكر أحدًا من العلماء والرواد والأطباء العرب القدامى، وفي حديثه عن وليم بت الذي صفقت له انجلترا وخلده التاريخ «.. التحق وليم بت بجامعة أكسفورد، فرأى أن ضررها أكبر من نفعها فهي تعود على الاتباع وليس على الإبداع..» وضمن حديثه عن جيمس وات قال: «.. حين يجري الحديث عن جيمس وات، يجب أن نستحضر أسماء الأفراد الذين صنعوا المجد الإنساني مثل مخترع الورق العبد الصيني تسايلون، ومخترع المطبعة الحداد جو تنبيرغ، وتوماس إدیسون وفورد والأخوان رايت وأمثالهم، إن الإنسانية ليست مدينة بتقدمها الحضاري لأهل الشهادات التعليمية وإنما هي مدينة للقلة المبدعة وأكثرهم لم ينالوا أي تعليم..». وقال في ختام حديثه عن توماس مان: «.. إن ما أكتبه عن المبدعين هو مجرد تنبيه وإشارة ودعوة للنظر إلى الفكر والعلم والمعرفة الموضوعية والفن، برؤية تنتقل من أخذ التعلم كوسيلة للوظيفة والوجاهة إلى قيمة عليا طلب لذاتها ويحتفى بها احتفاءًا يليق بها كقيم عليا، فيها تتحد قيمة الإنسان، ومعنى أن يكون الإنسان فرداً واعياً وخلاقاً وملتزماً بقيم الحق والخير والجمال». وكرر الحديث في مقالاته القصيرة أنها ليست سوى شواهد مضيئة ناطقة وذات دلالات عميقة من تاريخ العلم من أجل الاسهام بالإيقاظ بأن العلم والمعرفة الموضوعية والفنون الرفيعة، كلها ذات قيمة عليا، فهي لا تُطلب كوسيلة للشهادة والوظيفة والوجاهة.. بل أقوم بمرافعات ضد من يستهينون بالعلوم والفنون ولا يطلبونها إلا من أجل نتائجها العملية، حيث الشهادة مدخل للوظيفة... وهذه المقالات أشبه بالضغط على مفتاح أجراس الإنذار من أجل الإيقاظ والحفز..» وعندما كتب من هنري فورد العبقري الذي أعاد تشكيل العالم، قال: «.. علينا جميعاً أن ندرك بوضوح شديد وجلاء قاطع، أن العالم مدين بتقدمه الحضاري لعدد قليل من الأفراد الخارقين الذين علّموا ذواتهم بذواتهم، تخيل الحياة قبل اختراعات وانجازات تسايلون (الورق) وجوتنبرج (المطبعة) وجيمس وات (الميكنة) وماركوني (الراديو) وجراهام بيل (الهاتف) وتوماس إديسون (الكهرباء) وهنري فورد (السيارات) والأخوين رايت (الطائرات) ووزنياك (الكومبيوتر). هؤلاء نماذج من الذين لم يتلقوا تعليماً جامعياً وتحققت على أيديهم أعظم التطورات الحضارية التي يعيشها العالم». كنت سأستمر ولكن الحيز المخصص للمقال لا يتسع ولهذا لا بد من الإشارة ولو سريعاً للكتب الأخرى والتي تصفحتها فوجدتها تنحو منحى ما سبق. وتحمل عنواناً موحداً (تأسيس علم الجهل لتحرير العقل) الأول (عبقرية الاهتمام التلقائي) (التعلم اضطراراً مضادًا لطبيعة الإنسان التلقائية) دار التنوير، ط1، 2017، 390ص. والثاني (الإبداع والاتباع) (الاكتشاف والتطبيق، الاختراع والإنتاج، الابتكار والتنفيذ، الريادة والاستجابة، القيادة والانقياد) دار الروافد، ط1، 2023، 531 صفحة. الثالث تقديم وتحرير صديقه محمد حكمون (هكذا تكلم البليهي) كتاب سيغير نظرتك لنفسك وللعالم. دار الروافد الثقافية، ط1، 2025. أهداه للمفكر الدكتور مرزوق بن تنباك الذي قال للبليهي: «أفكارك وآراؤك مهمة وكثيرة لكنها مبثوثة في عدد من الكتب..» لذلك فقد اقترح أن أقدم للقارئ ملخصاً لأفكاري في كتاب واحد جامع، وكنت أفكر في تحقيق هذا المطلب، ثم فوجئت بأن الرائع محمد حكمون قد حقق هذا المطلب بشكل فائق، لذلك أهدي هذا العمل المركز الكثيف للصديق المفكر مرزوق بن تنباك، إبراهيم البليهي. واستعرض قصة اتصال حكمون به من المغرب بعد أن شاهد بعض المقابلات وقرأ بعض ما نشره البليهي فكان الاتصال والمراسلة والزيارة له بالرياض وتردده عليه في مكتبته التي تضم نحو خمسين ألف كتاب من مختلف العلوم والمعارف والفنون... لخص أفكار واقتراحات وما ينادي به البليهي في جميع كتبه بـ 1041 فقرة بهذا الكتاب في 429 صفحة. شكراً للثلاثة البليهي ومرزوق وحكمون فقد أوقدوا الشموع.