في حلقة نقاش نظمها مركز البحوث والتواصل المعرفي..
د. عبدالله آل ربح: الولايات المتحدة بلدُ الثنائيات.. وهناك «أمريكتان» لا أمريكا واحدة.
نظم مركز البحوث والتواصل المعرفي حلقة نقاش بعنوان “أمريكا.. مواجهة الاستقطاب بين الحزبين وأثر ذلك في مستقبل السياسة الأمريكية”، قدّمها الدكتور عبدالله آل ربح، وذلك بحضور نخبة من الأكاديميين والباحثين والمهتمين بالشأن السياسي والفكري. وافتُتحت الحلقة بكلمة للدكتور علي الخشيبان، الذي رحّب بالحضور وقدم المحاضر، مستعرضًا جانبًا من سيرته الأكاديمية والبحثية، واهتماماته في علم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية، ودراساته المرتبطة بالتحولات السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة، قبل أن يشرع الدكتور آل ربح في طرح محاور الحلقة ومقارباتها التحليلية. وتأتي هذه الحلقة في وقت تتزايد فيه الحاجة إلى فهم طبيعة الاستقطاب الحاد داخل الولايات المتحدة، الذي لم يعد مجرد خلاف حزبي تقليدي، بل تحول – كما أوضح الدكتور آل ربح – إلى عامل ضاغط على استقرار الدولة، ومؤثر مباشر في صورتها الدولية وقدرتها على صياغة سياسات متماسكة. وقال الدكتور آل ربح في مستهل حديثه إن الولايات المتحدة تعيش منعطفاً تاريخياً غير مسبوق، يتمثل في استقطاب بنيوي يضرب في عمق الهوية الوطنية والنظام الديمقراطي، مشيراً إلى أن مظاهر العنف السياسي الراهنة تختلف جذرياً عن تلك التي شهدتها البلاد في ستينيات القرن الماضي. فبينما كان العنف آنذاك مرتبطاً بحركات أيديولوجية منظمة، يتسم العنف اليوم بطابع فوضوي تقوده “ذئاب منفلتة”، تغذيها الكراهية والاستقطاب الرقمي عبر منصات التواصل الاجتماعي. وانتقل الدكتور آل ربح في المحور الثاني إلى تحليل ظاهرة دونالد ترامب، بوصفه حالة قطيعة معرفية مع السياسة الأمريكية التقليدية، موضحاً أن ترامب لم يكن مجرد رئيس مثير للجدل، بل مثّل تحدياً مباشراً لما يُعرف بـ”الدولة العميقة”. وأشار إلى أن إدارة ترامب سعت إلى تفكيك البيروقراطية التقليدية، واستبدلت استراتيجية القيم التي حكمت السياسة الخارجية الأمريكية لعقود بما سماه “استراتيجية الصفقات” القائمة على السيادة القومية والمكسب المباشر. وأوضح أن ذلك تجلّى في تهميش المؤسسات التقليدية، وعلى رأسها وزارة الخارجية، لصالح قنوات شخصية وعائلية عقدت صفقات مباشرة، كما في الاتفاقيات الإبراهيمية، إضافة إلى التعامل مع حلف الناتو بمنطق تجاري بحت، والنظر إليه كعبء مالي، إلى جانب الانسحاب من التعددية الدولية لصالح الاتفاقيات الثنائية. وفي المحور الثالث، تناول الدكتور آل ربح أثر الانقسام الداخلي على فاعلية السياسة الخارجية الأمريكية، مبيناً أن التنافس الاستراتيجي مع القوى الكبرى بات رهينة الخلاف الحزبي. ففي الملف الصيني، استبدل ترامب سياسة الاحتواء التقليدية بمواجهة شاملة تكنولوجية واقتصادية، في حين يميل الديمقراطيون إلى تأطير الصراع من زاوية القيم وحقوق الإنسان. أما العلاقة مع روسيا، فبدت – بحسب توصيفه – ضبابية ومتناقضة، تجمع بين عدائية المؤسسة الأمريكية ونفعية ترامب الشخصية. وتوقف الدكتور آل ربح عند دور جيل Z في تغذية الاستقطاب، مشيراً إلى أن هذا الجيل يشكّل وقوداً جديداً للصراع السياسي، من خلال تبنيه مواقف راديكالية انعكست على الجامعات الأمريكية، التي تحولت – في بعض الحالات – من منابر للحوار إلى ساحات للإقصاء وصدام الهويات، فيما يعرف بثقافة الإلغاء. وأوضح أن هذا الجيل يمتلك أدوات حشد رقمية فعالة، تضغط على الأحزاب السياسية، دافعاً الحزب الديمقراطي نحو اليسار التقدمي، مقابل شريحة شبابية أخرى تميل إلى اليمين الشعبوي نكاية في المؤسسة السياسية التقليدية. وفي سياق متصل، ناقش الدكتور آل ربح صعود سياسة “الأنا” والفردية، معتبراً أن ترامب جسّد عودة “السلطة الكاريزمية” بمفهوم عالم الاجتماع ماكس فيبر، في مواجهة “السلطة العقلانية القانونية” للمؤسسات. وبيّن أن ولاء الحزب الجمهوري تحوّل من المبادئ المحافظة إلى شخص الزعيم، ما عزز نزعة فردية متطرفة حذّر منها ألكسيس دو توكفيل مبكراً، وأسهم في تحويل الخلاف السياسي إلى عداء وجودي وشخصي. وفي قراءته للمستقبل، أكد الدكتور آل ربح أن “الترمبية” ليست ظاهرة عابرة، بل منهج بنيوي مرشح للاستمرار داخل الحزب الجمهوري حتى بعد رحيل ترامب، مع صعود قيادات جديدة تتبنى شعار “أمريكا أولاً”. في المقابل، أشار إلى أن الحزب الديمقراطي يواجه أزمة هوية حقيقية، وحاجة ملحّة إلى صياغة سردية وطنية جديدة قادرة على مخاطبة الطبقة العاملة واستعادة الثقة الشعبية. واختتم الدكتور آل ربح حديثه بالإشارة إلى تحول مفهوم البراغماتية الأمريكية، التي انتقلت – بحسب وصفه – من مرونة سياسية عقلانية إلى نفعية تجارية فجة تسعى إلى المكسب الفوري. داخلياً، انعكس ذلك في تحوّل السياسة إلى لعبة صفرية تغيب عنها الحلول الوسط، وخارجياً فتح الباب لإعادة رسم التحالفات الدولية على أساس المصالح المجردة، بعيداً عن الأيديولوجيا والقيم التي شكّلت جوهر السياسة الأمريكية لعقود. وفي ختام الحلقة، فُتح باب النقاش للحضور، حيث شهدت الجلسة مداخلات نوعية وحواراً تفاعلياً مع المحاضر، ناقش خلالها المشاركون عدداً من القضايا المرتبطة بموضوع الاستقطاب الحزبي الأمريكي وانعكاساته الداخلية والدولية. وكان من أبرز المتداخلين الدكتور عبدالسلام الوايل، والدكتور سعيد الغامدي، والدكتور لطيف (باحث صيني زائر في مركز البحوث والتواصل المعرفي)، وعبدالواحد الأنصاري، والدكتور علي الخشيبان، والدكتور عبدالله آل ربح هو أكاديمي سعودي، وأستاذ مشارك في علم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية بجامعة جراند فالي الأميركية، وزميل أبحاث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط بالعاصمة واشنطن. نشر العديد من الأبحاث العلمية المحكمة في دوريات أكاديمية رصينة، إلى جانب إسهاماته البحثية في عدد من مراكز الفكر في واشنطن والولايات المتحدة الأمريكية، حيث تركزت دراساته على التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية المعاصرة.