بحثا عن رامبو..

من موانئ جدة، القنفذة، جيزان، وصولا إلى الحبشة.

كان رامبو يخرج من ذاته كما يخرج الحجر من رحم النار. في المرافئ التي يعبرها، في الصمت الذي يطوي المسافات، يبحث عن شكل آخر للوجود، عن اسم يتناثر كالغبار بين البحر والصحراء. (زهوت منذ أمد بعيد بقبضتي على جميع آفاق الحياة والخيال، ولم أضمر لأعلام الشعر والفن في هذا العصر غير الإزدراء. من “هذيان 2 ، كيمياء الكلمة” فصل في الجحيم، ترجمة، رمسيس يونان). هكذا قال صوت رامبو الداخلي، كما لو كان يلقي بنفسه في هاوية من ضوءٍ جديد، تفيض من أعماق اللغة وتبتلعه. آرثر رامبو، (1854-1891)، ذاك الذي شقّ العالم بحدّ القصيدة، لم يكن شاعرًا بالمعنى الذي يتكرر في الكتب، بل كان كائنًا يعبر الهواء حافيًا، “الرحالة الذي عبر بنعال من ريح”. في عمرٍ مبكر، حين أعلن: (أنا لم أعد شاعرًا، لأنني لم أعد مجنونًا)، كان يعلن ميلاد نفيٍ صاخبٍ للحياة والمجد معًا، ويفتح بابًا لمغامرة ستقوده من باريس إلى ضفاف البحر الأحمر، ومن رائحة البن في عدن إلى غبار هرر، ومن الحمى إلى الفناء. كل خطوة كانت كأنها بيت شعري لم يُكتب بعد، وكل ميناء فصلٌ في إنجيل الغياب. حين تخلى عن الشعر عام 1875 بعد أن أنجز “المركب السكران” و”فصل في الجحيم” و”الإشراقات”، لم يلقِ الورق فقط، بل أزاح عن نفسه قناع النبي، تاركًا للزمن رماد اللغة. بحث عن “خطاب حياتي آخر”، لا يكتبه بالحبر بل بالعرق، لا يقرأه أحد، بل يعيشه وحده على أطراف العالم. كان ذلك تمردًا على أوروبا التي امتصت روحها يقينها، وعلى باريس التي صار هواؤها ثقيلًا من كثرة الكلام. ابتعد عن بول فرلين، الصديق والعاشق، كمن يقطع آخر خيط يربطه بظله، بعدما وجه إليه ذاك المسدس في لحظةٍ تربك التاريخ أكثر مما تفسّره. أراد أن يكون آخر، تمامًا كما كتب ذات مرة: “أنا آخر”، أن يتحرر من شرط الشعر، ومن شرط الذاكرة أيضًا. هكذا بدأ بالرحيل في قاراتٍ تتنفس بالنجوم والغبار. مرّ بقبرص عام 1878، عمل في مقلع حجارة، مريضًا بالتيفوئيد، محمّلًا بخيبةٍ تقرع في العظم. ثم عاد، لا ليستريح، بل ليتهيأ للغياب. عام 1880، وصل إلى عدن، مدينة تتشمم رائحة التاريخ عند كل موجة. أصبح موظفًا لدى ألفرد باردي تاجر البن، وأرسل إلى عائلته، كما نقل شربل داغر في “العابر الهائل بنعال من ريح”، يقول: (بحثت عن عمل في مختلف مرافئ البحر الأحمر... وصلت إلى هنا بعد أن سعيت لإيجاد عمل في الحبشة. كنت مريضًا عند الوصول. أنا مستخدم عند تاجر بن، وأنا لا أملك بعد سوى ستة فرنكات). من جدة إلى القنفذة، من الحديدة إلى سواكن ومصوّع، كان رامبو يعبر المرافئ لا كتاجر بل كمن يمتحن الخرائط. كل ميناء كان له ذراع من شمس، وجسد من تعب، وسرّ يلمع في الرمل. كان البحر الأحمر له مرآةً معكوسة، يرى فيها ظل أوروبا الملتصق به كندبة. وفي كل اسم عربي يسمعه، (جدة، القنفذة، جيزان)، كان يجد موسيقى لا تشبه لغته، لكنها تفتح فيه بابًا للانصهار. كتوقيعه بـ”عبده رامبو”، كما ورد في (الأعمال الكاملة، دار الجمل، ترجمة كاظم جهاد، مقدمة عباس بيضون وآخرين) — توقيعٌ يعيد بناء ذاته من رمادها، يعلن أن التحول ليس مجازًا بل حياة. “عبده” لم يكن استعارة، بل ولادة جديدة في عالم يرفض الأسماء القديمة. في هرر، استقر بوجهٍ ملحيٍّ، يعمل في تجارة البن والجلود، وربما في تهريب السلاح كما تقول الروايات. كانت هرر حارّة كجرحٍ مفتوح، تحاصرها الحمى والرمال والقلق. يروي ألفرد باردي، كما نقل داغر في (العابر الهائل بنعال من ريح)، أنهما “اجتازا المرافئ العربية في جدة، القريبة من مكة، وفي القنفذة التي نتجه منها إلى عسير، وجيزان والحديدة واللحية ومخا، رأس طرقات اليمن”. كل هذه الأسماء، الممتدة كخريطة من لهيب، كانت تضبط إيقاع حياته الجديدة. هناك كتب إلى إيزابيل، وكانت تلك الرسائل شظايا من حنينٍ يُرسل إلى امرأة تمثل الوطن والنجاة معًا. فيها، يُسمع صوت إنسان متعب أكثر مما يُرى ظل شاعرٍ منفي. (رسائل إلى إيزابيل)، كانت معرضًا لروحه. لم يكن يكتب لها عن الأدب، بل عن الركبة المنتفخة، والحرارة اللاهبة، والوحدة. يصف عرق الجبال في هرر، والمساومات في السوق، وكيف ينام بين أصوات الضباع وصرير الريح. يشكو من الألم والمرض، لكنه لا يفقد حس المغامرة. يقول كما نقل داغر إنه يحلم بـ”ثروة صغيرة” تسمح له بالعودة إلى فرنسا، بالحياة الهادئة التي لم تعد تخصه. وفي تلك الرسائل، يطلّ وجه الإنسانية المتعبة التي أرهقها السفر والتفكير. إيزابيل كانت صدى الحياة الماضية، وكانت الأم الثانية التي تقرأ وجعه بصمت. تلقّت منه رسائل تشبه أنينًا موجّهًا إلى العالم، لكنها كانت أيضًا إعلانًا لاستمرار الرغبة: الرغبة في الفهم، في الاستمرار، في النجاة من قسوة الجسد والذاكرة. في هرر، صار رامبو يشبه أحد زهاد العصور القديمة، يكدّح تحت الشمس كمن يؤدي شعيرة الوجود. لم يعد الشعر لغته، بل الصبر. لم يعد المدى وعدًا، بل قدرًا. ومع ذلك، يظل هناك بريق خفيف، لحظة غامضة يتذكر فيها نفسه وهو طفل في شارلفيل، يكتب على الورق المبلل، ويؤمن أن الشعر يمكن أن يغيّر الكون. كلما كتب رسالة، غاب الصوت الشعري وتسلّل الصمت الجسدي، لكنه لم يختفِ كلّيًا، كان يُعيد صياغة الشعر داخل جمجمته، بلا كلمات. كان يعيش القصيدة دون أن يدوّنها. ثم جاءت النهاية كما تأتي الريح المحمّلة بالرماد. عام 1891، بدأ الألم في الركبة — ذاك المفصل الذي حمله من جدة إلى القنفذة، ومن هرر إلى البحر — يتحول إلى مصيدة. عاد إلى فرنسا مضطرًا، يحمل في جسده خريطة الرحلة كاملة. في مرسيليا، دخل المستشفى جسدًا غريبًا يطفو على الذاكرة. الأطباء قرروا البتر، لا لإنقاذه، بل لمحاولة تأجيل النهاية. خسر ساقه اليمنى، لكن لم يخسر حلمه الصغير بالعودة إلى الهضبة، إلى أشجار البن. كانت رغبته في السفر، رغم الجراح، تشبه رغبة الغريق في الغوص مرة أخرى. خلال تلك الأشهر الأخيرة، كانت إيزابيل إلى جانبه. لم يكن الحديث بينهما عن الأدب أو الماضي، بل عن الألم والمستقبل المستحيل. هو الذي عبر الأرض بنعال من ريح، لم يعد يستطيع الحركة. كل ما تبقّى منه كان نظرة تائهة نحو الشرق، حيث الشمس تصعد كما كان يريدها دائمًا: غريبة، لا تعرف العودة. وحين جاء العاشر من نوفمبر 1891، أطبق البحر على أنفاسه في مرسيليا. هناك انتهى الجسد، لكن لم ينتهِ المسافر. بقيت المرافئ تصدح باسمه، من جدة حتى هرر، كأنها تحفظ أثر أقدامه. رحل رامبو في السابعة والثلاثين، العمر الذي ما زال يطلّ من النسيان كوميض مصباحٍ في عتمة الفكر. ترك إرثًا يصعب تصنيفه: شعر لم يكتمل، حياة تمشي على خط النار، ورسائل تشهد على إنسانٍ آمن أن الحرية لا تُكتب، بل تُعاش. من “فصل في الجحيم” إلى مرافئ القنفذة، كانت رحلته بحثًا عن جوهرٍ يليق بالضياع، عن خلاصٍ لا يعتمد على اللغة. وهكذا، ظل رامبو، كما وصفه شربل داغر، (العابر الهائل بنعال من ريح)، كائنًا وجد في الاغتراب وطنًا مؤقتًا، وفي العزلة معنى لا ينفد. لم يكن الموت نهايةً، بل اكتمالًا لذلك الجنون البعيد الذي بدأ يوم همس لنفسه: “زهوت منذ أمد بعيد بقبضتي على جميع آفاق الحياة والخيال”.