![](http://alyamamahonline.com/uploads/1735104848.jpg)
أستطيع القول إن القطاعات الاقتصادية والصناعية يتم تشغيلها بشكل روتيني لتكون محرّكاً لإنتاج أشكال تقليدية مما نستهلك بشكل يومي على المستويات الفردية والجماعية الرسمية وغير الرسمية. لقد التفت الغرب، قبلنا، إلى هيكلية راسخة لهذه القطاعات ووضعها على منصة وقاعدة تعتبر حديثة تتخذ من الفكر والبحث ارتكازاً لها. تعمل هذه الهيكلية من خلال تشغيل قطاع فكري متكامل يحرّك التقدّم الاقتصادي والمجتمعي بينما تتولد الابتكارات بشكل يومي مع سعي دؤوب لإيجاد حلول للتحديات المعقدة في عالم اليوم. يمثل هذا القطاع، الذي يضمّ مراكز الفكر والهيئات الاستشارية ومؤسسات البحث، فرصة غير مسبوقة لتشكيل سياسات عامة ومحفزّات التنمية المستدامة وثورة في كيفية تعامل المجتمعات مع القضايا الحرجة. لقد جعلنا ذلك، وبغير وعي، نقلّد ليس فقط طريقة الإنتاج، بل نستنسخ نموذجاً غير معياريٍ وربما خاطئ، بينما تستند إلى قاعدة بحثية لا تتناسب مع منطقتنا وطبيعة ظروفها. لقد وجب إطلاق نسخة خاصة بنا بإمكانيات كاملة، وهذا يحتاج إلى تدوير عجلة الإنتاج في “الاقتصاد الفكري” من خلال تفعيل الحوكمة والتعاون وتحسين التمويل واستغلال التقدم التكنولوجي، وهذا يضمن تحوّل هذا القطاع من مفهوم مجرّد إلى قوة اقتصادية ملموسة للتقدم. لقد كان لأستاذي الراحل جيمس ماكغان، رئيس برنامج مراكز الفكر ومؤسسات المجتمع المدني في جامعة بنسلفانيا، وجهة نظر مماثلة في كتابه “مراكز الفكر والمشورة السياسية في الولايات المتحدة”، فقد شدد على أن “القطاع الفكري” يمكن أن يقدّم حلولاً بالسرعة والنطاق المطلوبين لتلبية متطلبات القرن الحادي والعشرين من خلال تنظيم جهود عناصره وتوسيع نطاقها. لقد أظهرت مؤسسات مثل مؤسسة بروكنغز ومؤسسة رند، كيف يمكن للتحليل الدقيق أن يوجه عملية صنع القرار بشأن قضايا تخصّ قطاعات أخرى وتجوّد عملها بطريقة أكثر إنتاجية، وهذا يشير لنا أن عناصر القطاع الفكري المتكاملة ستكون أكثر من مجرد أداة لحلّ المشاكل، بل حافزاً للابتكار والإبداع ومضاعف للقوة. سيتبنّى “القطاع الفكري” في البداية أسس التصنيع والإنتاج التقليدية لتعظيم مساهماته في بيئته. يتطلّب تحويل العناصر المذكورة آنفاً إلى قطاع متكامل مصنّع ومنتج بالشكل المثالي تنفيذ نموذج حوكمة واضح للحفاظ على الثقة والشفافية والابتكار والتركيز الاستراتيجي، وتنويع مصادر التمويل للحفاظ على موضوعية القطاع وصناعة وجهة مهنية تنافسية من خلال تقديم فرص قوية للتنمية المهنية وتعزيز ثقافة التعلم المستمر، وتفعيل الشراكات الاستراتيجية مع الأوساط الأكاديمية والصناعية والحكومية لتوسيع نطاق القطاع، وتبنّي العمل بالأدوات الرقمية الحديثة، وقيادة التغيير المجتمعي الإيجابي وممارسة الحماية المجتمعية من التأثيرات السلبية من خلال إشراك الجمهور بشكل نشط في هذا القطاع. كيف نستثمر في القطاع الفكري؟ يتطلّب الاستثمار في “القطاع الفكري” نهجاً استراتيجياً أشبه بالقطاعات الاقتصادية التقليدية يستكشف الرابط والجسر مع الحكومات وباقي القطاعات. وبالمثل من القطاعات الصناعية أو التكنولوجية على سبيل المثال، سيزدهر القطاع عندما يتم الاستثمار بشكل منظم في بنيته التحتية التي تشمل مواطن الإبداع والموهبة والابتكار التي تعزز وتساند باقي القطاعات وتنهض بها على أساس ثابت. وفيما يلي دليل مفصل حول كيفية بناء الخصائص الاستثمارية في “القطاع الفكري” بشكل فعّال لتعظيم عوائده وتحويله إلى اقتصاد منتج. أولاً: مواءمة غرض الاستثمار مع النتائج المرجوة من القطاع، ويمكن أن تتراوح هذه النتائج من حلّ التحديات المجتمعية والاقتصادية التي تعاني منها الحكومات، من خلال التركيز على الاستثمارات التي تعالج التحديات الوطنية أو العالمية الملحة، والتوافق مع أهداف العمل في القطاع الخاص، مثل أبحاث السوق، أو الرؤى التنظيمية، أو شراكات الابتكار، ودعم قضايا ملحة مثل تطوير التعليم، أو إصلاح الرعاية الصحية، أو التنمية المستدامة من خلال المبادرات المدعومة بالبحث. ثانياً: تأتي المرونة المالية في القطاع الفكري من تدفقات إيرادات متنوعة مثل أي صناعة، حيث يجب على المستثمرين إنشاء نماذج تمويل متوازنة تسمح للمؤسسات بالحفاظ على الاستقلال والاستقرار على المدى الطويل مع ضمان الدعم المستدام للمبادرات المرتبطة بالرفاهية العامة والابتكار، وتشجيع المؤسسات والمانحين الأفراد على دعم البحوث غير المتحيزة عالية التأثير، ومن ثم الاستثمار في المخرجات الفكرية مثل منتجات البيانات أو رؤى السوق أو خدمات الاستشارات. ثالثاً: تأسيس البنية التحتية التكنولوجية للقطاع من أجل إنتاج وتحليل ونشر الأفكار بكفاءة والوصول إلى حالة “محاكاة المستقبل”، حيث يمكن للمستثمرين تعزيز نطاق وتأثير المخرجات الفكرية من خلال تمويل التطورات التكنولوجية. رابعاً: بما أن رأس المال البشري شريان الحياة في “القطاع الفكري”، فعلى المستثمرين إعطاء الأولوية لمبادرات التمويل التي تجتذب وتدرب وتحتفظ بالمواهب المتميزة والاستثمار فيها، مما يضمن قدرة بشرية متنامية وواعية بالمستقبل، من خلال دعم الباحثين وصناع السياسات في بداية حياتهم المهنية، وتمويل برامج التطوير المهني التي تبقي موظفي القطاع على اطلاع على اتجاهات الصناعة وأساليبها، وإنشاء برامج تجذب المواهب المتنوعة على المستوى الوطني والتي تغني عن المعونة الاستشارية والبحثية الخارجية المكلفة، وإقامة شراكات مع الجامعات لإنشاء مسارات للخريجين للانضمام إلى القطاع. خامساً: تأسيس الصناديق المخصصة التي تستهدف مجالات محددة من الإنتاج الفكري ودعم مراكز الفكر التي تعالج التحديات العالمية الناشئة وعكسها على المستوى الوطني والقطاعات المحلية، والاستثمار بحوث التكنولوجيات المتقدمة، وتقديم تمويل على غرار المشاريع للمشاريع الفكرية ذات الجدوى التجارية، والشراكة مع شركات رؤوس المال الاستثمارية لإنشاء صناديق هجينة تجمع بين دوافع الربح وتأثير التنمية المستدامة الإيجابي. من الطبيعي أن يواجه أي قطاع ناشئ عقبات كبيرة، بما في ذلك الضغوط، وعدم استقرار التمويل، والتشكيك العام، لكن هذه التحديات تقدم فرصًا للابتكار، حيث يمكن للقطاع الفكري بحلول عام 2030، أن ينافس الصناعات التقليدية في مساهماته الاقتصادية والمجتمعية، وبالإمكان أن تتخيلوا عالمًا حيث يكون الباب مفتوحاً بين الحكومات والشركات وقطاع يتكون من شبكة مركزية من مراكز الفكر للحصول على رؤى في الوقت الفعلي تعتمد على البيانات التي ترسم مستقبلاً استثنائياً. في النهاية، يجب الاعتراف بالقطاع الفكري باعتباره صناعة أساسية، صناعة قادرة على إنتاج كتلة فكرية معززة تمتلك قوة تحويلية مع انتقالنا إلى اقتصاد قائم على المعرفة. يمكن للقطاع إطلاق العنان لإمكاناته الكاملة من خلال تبني نهج حوكمة، وتمويل، وتعاون منظم. يجب على الحكومات والشركات ومؤسسات المجتمع المدني الاستثمار في القطاع الفكري، وتزويده بالأدوات والموارد والبنية الأساسية اللازمة للازدهار. بذلك، لن نحل تحديات اليوم فحسب، بل سنبني الأساس لمستقبل مزدهر وعادل ومستدام. لقد حان الوقت لتدوير عجلة الإنتاج في “الاقتصاد الفكري”. * رئيس ومؤسس DEVE Initiative لدعم مراكز الفكر وصنّاع القرار.