ولكنكم في الأدب غُرباء.

“يمر الطريق إلى الإبداع بالقرب من مستشفى المجانين، وغالبًا ما ينحرف أو ينتهي هناك.” - كلام لـ «إرنست بيكر» كاتب وعالم أنثروبولوجي أمريكي يعلم جيدًا ما يقول ونعي تمامًا ما للأدب من اختلاق وشطحـــات قد يلتبس على من هم خارج دائرته فثمة من ينكر هذا الذي يقرأ ويُشَكِّك في سلامة عقل صاحـــبه بل ويراه ضربًا من الهذيان وهناك من يجد فيه هزلًا لا طائل منه قيل بأن رجلًا أنشد قومًا شعرًا فاستغربوه فقال: والله ما هو بغريب، ولكنكم في الأدب غرباء” لا عتب.. حقًا هم غُرباء وما أدراهم بقوانين وأحوال دولة الأدب فلنسأل اللغة كيف تنمو، وتخرج عن طورها المعهود لتتشكّل إلى عجينة أخرى في حال لو تعرض لها كاتب بارع ما تجدونه مكتوبًا بين ثنايا الكتب من روائع.. تنزيل يهبط على ملوك الكتابة عبر حيز خارج إدراككم.. فقط الذي جاور ذاك العالم يعلم مناطه. - إذا كان الأدب وكما قيل “موجّه للحواس أو بمعنى أنه لا يُقرأ بالعقل باعتباره نشاطاً تخيليًا” على القارئ العادي أن يتجنّبه فالنظر إلى اللغة التي يستثمرها الأديب من خلال الإيحاءات والقيم التعبيرية في تشكيل الصورة المراد بها؛ مقصود به مُتَلَقٍّ خاص يقول بورخيس: “كنتُ أقول لطلّابي: “إذا أقلقَكم كتاب، وأُعجم عليكم اتركوه، هذا الكتاب لم يُكتب لكم” - من هنا على كل من يرتع خارج أسواره: أن على العمل الأدبي أن لا يُؤخذ على محمل الجد أو التناول العلمي، أو كـ قضية قابلة للجدل وليس مركبة لنقل الأفكار من وجهة نظر الشكلانيين ولا هو انعكاس لواقع اجتماعي هو بحث آخر.. وعنفاً منظماً ضد الحديث العادي على حد تعبير الناقد الروسي جاكوبسون. لذلك ينبغي على الذي جهل أو أشــكل عليه تجليات، وإيحاءات ومقاصد كائنات الأدب من نص وشعر ونثر.. وما إلى ذلك أن يكون بمعلومه أن «الأدب كله قائم على محاولة وصف شيء لا يراه إلا الكاتب» إلى جانب شريكه الأوحد قارئنا النخبوي العتيد - ما نقرؤه أو نسعى لتدوينه مشاغبة لذيذة ومجازًا يخلق لمواضع الكلمــات ما لم تعهدها بينما للخيال تأشيرة لا تذعن لأمد ولا لرقيب.. سوى ما يتعين عليه من ضوابط.. على ذكر الضوابط يبدو أنها تحد من عملية الإبداع فكما أن الأحذية تعيق الجري والانطلاق عبر أمواج الرمال؛ كذلك بحضور الحذر والوصاية لن تُحَلِّق الكتابة الإبداعية. كلما أحدثت الكتابة دويًا ودهشة وتساؤلات كانت أقرب لمقتضيات نجاح النص الإبداعــي ‏”الكتاب الجيد ليس هدفه أن ينام القارئ في هدوء لكن أن يثب من سريره، ويهرول مرتديًا ثيابه ليصــفع الأديب على وجهه”. كلام قيل بأنه لأحد أفضل ممثلي الأدب التشيكي في القرن العشرين. بوهوميل هراباك. بخصوص الضوابط لعلي أشير أن لكل مذهبه في هذا الشأن.. لست بمعرض الشجب أو القبول.. ولا بغرض الحديث عن غربة القارئ العادي عندما يتعثر بنص أدبي ملطوش العقل ولا حتى بنوبات الصرع التي تعتري جسد نص ما بالرغم من ولعي بملاحقة ذاك الجنون ما أريد الوقوف عليه أكثر عرض بعض النصوص التي تجلت فيها صنعة الأدب وبراعة ما يحدث في وِرَش الكتابة من خَلْق وصور ولوحات. كقراء لا يسعنا غير أن نصيح ونطرب لهذا الذي يتشكّل - “لا تغضب من المطر، فهو ببساطة لا يعرف كيف يسقط لأعلى” للرهيب لفلاديمير نابوكوف - ‏”ساعة الحائط، أشدّ الحيوانات الأليفة ضراوة. أعرف واحدة من قبل.. التهمت ثلاثة أجيال من عائلتي”!. أيُّ خيال حدا بالكاتب والشاعر البرازيلي ماريو كوينتانا ليضعنا أمام هذه الصورة المرعبة - “لا حقل لي ‏ما همّني إن كان القادم ‏غيمة أم جرادًا” إحدى روائع الكاتبة السورية كاتيا راسم ‏- “إن تهتكي سرَّ (السرابِ) وجدتِهِ حلم الرّمالِ الهاجعاتِ على الظما” بيت فاتن تتجلّى فيه عبقرية الشاعر عمر أبي ريشة - على ذكر السراب كتبت: “بالسراب تُهدهد الصحراء ظمأ رمالها” - ‏”كل الكائنات تعيش مرة واحدة ‏إلا شجر الحناء يعيش مرتين ‏مرة في الحقل.. ‏وأخرى على أكف الأمهات” يا لجميل ما قيل الكلمات على ما أظن للكاتب السعودي سعيد معلف - ويمضي بنا نيرودا على جناح الخيـــال ليشركنا في تساؤل خُلّبي يقول فيه: لماذا لا يدرَّبون المروحيات على جني العسل من الشمس؟! - بينما (لصياد الحكايا) غاليانو قصيدة كئيبة يائسة بعنوان اللا أحد أو النكرات يقول في مطلعهـــا: تحلمُ البراغيثُ أن تَبتاعَ كلباً كما يحلمُ النكِراتُ بالخلاصِ من رِبقَةِ فَقرهم، ذاتَ يومٍ سِحريّ أن يمطرَ عليهم الثراءُ الكريمُ فجأةً أن تسيلَ عليهم الدِلاءُ مفعمةً بالحظّ السعيدِ. لكنّ الحظّ السعيدَ لن يمطرَ اليومَ ولا غداً أو أبداً.. - وتشجيعاً لمصباحٍ خجولٍ، على الليل الرحب أن يضيءُ كلّ نجومه. نص سخي لطاغور - مكتظة باللاشيء خيبة (الأُطُر) الفارغة! ياسمين حقي - “اغسل قدميك بنبع صاف وجفف مئزرك فوق الزهور ابنِ بيتك قبالة الجبل، واحـرق قيثـارتـك.. لكي تـشوي طائـر الكُرْكي”. - لوحة مأخوذة من كتاب (فن الكتابة: تعاليم الشعراء الصينيين). أيُّ تعليق ومهما بلغت به البراعة لا محالة سيفتك بنشوة الاستغراق فلنتأمل مصير الكركي الذي تحول إلى نغم شجي.. يا الله.. مذهل - ‏ ‏”بيانو العائلة ‏حصته من الحروب ‏أصابع مبتورة” من روائع الهايكيست المغربي‏ بكاي كطباش - ما يُخيفنا في الفزّاعات ‏(قالت العصافير) ‏ما يجعلنا نطير بعيدًا ‏هما ذراعاها، ‏ذراعاها المفتوحتان على الدّوام ‏في استعدادٍ مُريب لأن تحتضن ‏أيًا كان! ‏سُكينة حبيب الله كاتبة قصصية من المغرب أيضًا - تطول الشواهد.. ولا ينتهي الإبداع * كاتبة سورية مقيمة بإسطنبول